[زاد على الطريق]
ما الذي يخفف عليك جفاف الدروب المهلكة؟ محبة الله عز وجل، إن الحب يطيل النَّفَس فيعطي القلب قوة، ويعطي الجوارح قوة.
فما هي حقيقة الحب الذي نقول: ينبغي أن نعلمه أولادنا ليصدق انتماؤهم إلى الله ورسوله؟ وَقُود الانتماء: الحب، وجناحاه: الولاء والبراء.
فما هو الحب؛ لأن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره؟ قال الناس: الحب إشارة إلى الصفاء والضياء.
والعرب تقول إذا رأت أسناناً بيضاء متلألئة، تقول: حبب الأسنان.
أو هو من الحباب وهو الشيء الذي يطفو على ماء المطر إذا نزل، فكأن الحب هو هيجان القلب وثورته إلى لقاء المحبوب.
أو هو من اللزوم والثبات والاستقرار يقال: (أحبّ البعير) إذا برك ولم يقم؛ فكأن الحب هو لزوم قلب المحبوب، فلا يروم عنه تحولاً.
أو كأنه من الحَب الذي هو أصل الشيء، كما أن الحَب هو أصل الزرع.
فالحب هو إيثار المحبوب على المصحوب.
وهو رعاية الحبيب في المشهد والمغيب.
وهو إيثار الخدمة مع وافر الحرمة.
الحب أن لا يكون لك إرادة مع من تحب، تنفعل له ولو كان بضد رغبتك.
يخط الشوقُ شخصَك في ضميري على بُعد التزاوُر خَطَّ زوري ويُوهم منك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعُد فإنك نورُ عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنتَ مسروراً بهجري فإني من سرورك في سرور مسرورٌ أنك هجرتني! فأنا راضٍ وأنا مسرور، برغم أن الهجر للحبيب قوي وشديد؛ لكني مغلوب على ما تحب، فلا أرى إلا ما تحب، حتى لو كان بضد رغبتي.
هو هذا معنى أن لا يكون لك إرادة، ولذلك ترى المحبين مهانين ليس لهم كرامة، ولو قال المحب: كرامتي، فليس بمحب، لكنهم مُهْدَرُو الكرامة، يُهان المحبُّ ويَذِل وهو راضٍ مستكين.
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما مَن يهون عليك ممن يُكْرَمُ شاكلتَ أعدائي فصرتُ أحبهم إذا كان حظي منك حظي منهمُ أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ أهنتني فأهنت نفسي جاهداً؛ لأن إهانتي ترضيك، ماذا يفعل بي عدوي أكثر من أن يهينني، فلما أهنتني وأهانني عدوي صرت مثل عدوي، فأحببت عدوي لأن فيه صفة منك، كما أن حظي منهم الإهانة، وحظي منك الإهانة أحببتهم لذلك.
الحب: أن لا يكون لك إرادة مع من تحب.
كان مالك بن نويرة رجلاً مسلماً، فلما تنبأت سجاح الكاذبة التي ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي أول خلافة الصديق، تابعها مالك بن نويرة، فلما أرسل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد ليؤدب المرتدين، وبلغه أن مالك بن نويرة تابع سجاح الكاذبة، وقال بعض المسلمين لم نسمع منهم أذاناً ولا إقامة، ورأى أنه كفر، أمر به فقُتِل وتزوج امرأته.
أخوه متمم بن نويرة كان شديد الحب له، ما رأيت رجلاً تفجع في رثائه على أحد مثلما تفجع متمم على أخيه، فلما قتله خالد بن الوليد رثاه متمم بن نويرة بأبيات، فكان دائماً يبكي لا يُرى إلا باكياً، فمن شعره: فقال: أتبكي كل قبر رأيتَه لقبر ثَوَى بين اللوى فالدكادك فقلتُ له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك لا يرى قبراً على وجه الأرض إلا هو قبر محبوبه الذي دفنه فيه.
دعني لا أرى قبراً على وجه الأرض إلا قبر من مات من أحبتي.
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك هذه طبيعة الحب وطبيعة المحب.
فهل لما أرسل الله عز وجل نبيه بالهدى ودين الحق تأدبتَ بتأديب الله عز وجل إيانا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]؟ هذا هو معنى أن لا يكون لك إرادة مع محبوبك.
إذا أمرك بضد هواك تسارع أكثر مما لو كان وفق هواك.
هذا عنوان الحب؛ ولذلك جعل الله عز وجل الفعل علامة قائمة على ثبوت الحب فقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].
تُحب! لابد أن تقيم دليل المحبة وهو الاتباع، وهو أن لا تخالف أمره في دقيق ولا جليل، ذلك عنوان الحب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.