للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على من طعن في حديث الآحاد]

وهنا مسألة مهمة، وهي: أن الصحابة ما كانوا يفشون الأحاديث إلا إذا وجد ما يقتضي، يعني: لا نتصور أن عبد الله بن عمر يجلس في مجلس ويسرد الأحاديث سرداً كما لو كان يقرأ من كتاب، ولكن لما ظهر له المقتضى وسُئل عن مسألة فرأى الحديث يدل عليها ذَكَره.

ونحن نذكر هذا الكلام هنا؛ لأن بعض الذين طعنوا على الأحاديث يقولون لك: وهل عمر بن الخطاب هو الذي سمع هذا الحديث لوحده، أين بقية الصحابة؟! لماذا لم يسمعوا كلهم الحديث؟! ويطعن على الحديث أن صحابياً واحداً هو الذي سمعه، فلابد أن يكون واحداً واثنين وثلاثة وأربعة.

لا، فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما كان يتكلم بالكلمة غالباً إذا وجد ما يقتضي ذلك، يُسأل سؤالاً فيجيب، أو يستأنف الكلام من نفسه، إذا رأى ما يوجب ذلك.

على سبيل المثال: الحديث المشهور الذي تعرفونه جميعاً: (لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جدي أسكٍ ميتٍ فوقف مع الصحابة وقال لهم: أيكم يشتري هذا بدرهم؟ -هو الذي ابتدأ الكلام- فقالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه لأنه أسك مقطوع الأذنين، قال: أترون هذه هينةً على أهلها؟! والله! للدنيا أهون على الله من هذا على أهله).

فكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الواحد والاثنان والثلاثة من الصحابة، ويغيب الجمع الأعظم؛ لأنهم يكونون في مشاغلهم، وما حديث ابن عباس في الصحيحين منك ببعيد، لما سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، قال عمر بن الخطاب: كنتُ أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فإذا نزلتُ أتيته بالوحي، وبما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك.

فهذا يدلك على أن عمر بن الخطاب أراد أن لا يفوته شيء من العلم فعمل مناوبةً مع جارٍ له من الأنصار، كل الصحابة لم يعملوا هكذا، أبو بكر الصديق لا نعلم أنه فعل مثل هذا، وأيضاً كثير من الصحابة الذين هم في أماكن بعيدة ما أنابوا عنهم أحداً.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلم بالحديث فلا يحفظه إلا من كان حاضراً، وأغلب الصحابة كانوا غائبين، إنما كانوا يسمعون ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغون ذلك العلم إلى غيرهم إذ لم يكن آنذاك كذب.

فالذي يقول: أنه لابد أن يروي الحديث الاثنان والثلاثة والأربعة والخمسة! نقول له: لا.

كذلك إذا قال: وهل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري هما -فقط- اللذان رويا عن ابن عمر؟ أين بقية الأصحاب؟ نقول: هذان هما اللذان سألا، فلأجل هذا السؤال روى عبد الله بن عمر هذه الحكاية.

فـ يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري إنما خرجا من بلدهما ليسألا عبد الله بن عمر هذا السؤال.

فلما سمع ابن عمر هذا الكلام وتبرأ منهم قال: (حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ثم ساق الحديث.