إن التعامل مع الكتاب والسنة رصيده أمانة في قلب الرجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو من أشراط الساعة، ولعل زمنه هذا الزمان! - روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال:(حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من الكتاب، ثم علموا من السنة)(جذر قلوب الرجال)، الجذر: هو الأصل، أي: قبل أن يتعلموا القرآن والسنة رزقوا الأمانة التي بها لا يحرفون الكتاب ولا السنة؛ لأن تحريف الكتاب والسنة خيانة تدل على أن هذا الرجل لا رصيد للأمانة في قلبه؛ بدلالة هذا الحديث، ثم حدثنا: أن الأمانة ترفع من قلوب الرجال، فيظل أثرها مثل الوكت) (الوكت): هو السواد في لون الجلد، مثل أي جرحٍ في جلدك، بعد أن يبرأ الجرح ترى أثره مسود اللون في جلدك.
لما ارتفعت الأمانة من قلب هذا الصنف؛ تركت مكانها أثراً مثل الوكت (ثم ترفع الأمانة من قلوب الرجال فتترك أثراً مثل المجل - (والمَجْل) بفتح الميم وسكون الجيم- قال حذيفة -: هو كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط فتراه منتبراً) لما تدحرج الجمر على هذا الجلد يحصل فقاقيع ماء تنبت عليه، هذا هو المجل (كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط)(نفط): أي: انتفخ.
(فتراه منتبراً): أي عالياً منتفخاً؛ لأنه مملوء ماءً، بعدما يزول هذا الماء يترك هذا أثراً، هذا هو أثر المجل (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً ما أعقله! ما أجلده! ما أظرفه! وليس في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان).
ما معنى هذا التدرج في الوصف؟ مثل الوكت، ثم مثل المجل، المجل أوسع من الوكت، كأن الخرق اتسع على الراقع، (استسمنت ذا ورم)، أي: ظننته قوي العضلات، إذاً: المجل أعظم وأكثر اتساعاً من الوكت، ثم هو مع ذلك منتفخ، وهذا الانتفاخ ليس له أي رصيد من الإيمان، فكم من رجل يشار إليه بالبنان له منصب وجاه وليس في قلبه مثقال حبةٍ خردلٍ من إيمان، هذا معنى (منتبر).
(نفط فتراه منتبراً) له منظر ولا مخبر له.
إذاً: صيانة الكتاب والسنة، والوقوف عند حدود الله عز وجل أمانة، وهذا هو معنى قول الله عز وجل:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب:٧٢](الأمانة): كلمة التوحيد بتكاليفها، هذه هي الأمانة، هل لها عين تطرف والارتداد كل يوم، كل يوم نرى المرتدين يطفحون بالكيل على صفحات الجرائد، ونحن مستضعفون لا حيلة لنا، صوتنا لا يصل لكن هناك حلٌ قوي، هو الذي لاذ به المستضعفون في كل زمان من أتباع الرسل: أن تنادي ربك، وأنت تظهر الضعف بين يديه، وأن تقول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، هذا كان شعار أتباع الرسل؛ لأن أتباع الرسل جميعاً كانوا ضعفاء، هذه صفة أساسية لازمة لأتباع الرسل: ضعفاء، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:٩١] ماذا قال شعيب؟ قال كلاماً مفهوماً، نفس التغابي الذي يعاملوننا به الآن فعله قومٌ شعيب معه، كما سنبسط ذلك إن شاء الله.