وقد ضرب الله عز وجل لنا مثل الكفر والكافرين، وهذا تمثيل.
وبضدها تتميز الأشياء فقال تبارك وتعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[البقرة:١٧١] فأنت أيها الرجل تأمل هذا المثل: لو لم يكن في التمثيل من الكفر إلا هذا المثال لكان كافياً أن تترفع عن أن تقترب من أهله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً}[البقرة:١٧١] تعرف الراعي الذي ينعق -يعني: يرفع صوته إلى آخر حد- ينادي الأنعام: البهائم والبقر والخرفان.
الحيوانات سمعت؛ لكن هل عقلت؟ لا.
والكافر هكذا: يسمع لكن لا يعقل، وهذا السمع الذي حُرمه الكافر هو سمع القلب، لا سمع الجارحة، فكلٌ يسمع، قال الله عز وجل في بيان جزاء هؤلاء:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}[الأنفال:٢٣] مع أن الكافرين قالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:٣١] فقولهم: (قَدْ سَمِعْنَا) فهل سمعوا فعلاً؟ الله عز وجل قال:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}[الأنفال:٢٣] إذاً: سمعت الأذن ولم يسمع القلب.
فالسمع المفيد لصاحبه هو سمع القلب، فهذه الحيوانات كما أنها لا تعقل ما يقال لها وإن كانت تسمع صوتاً، فالكافرون كذلك، يسمعون آيات الله تتلى عليهم فيلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}[البقرة:٢٦]، مع أن الأمثال -كما يقول العلماء- من باب المبين، يعني: لا يوجد أوضح من هذا، إذا طلبت توضيح الواضح.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل أنا أفهم أنه قد يلتبس عليك المجمل مثل: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، صوموا رمضان، فأنت لا تفهم -من هذا وحده- كيف تقيم الصلاة ولا كيف تصوم ولا كيف تزكي؛ لأنه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، لكن إذا فصلنا فهل تأتي -أيضاً- وتسأل في المفصل؟! فالمثال الآنف الذكر من باب المبين.
وفيه يضرب الله عز وجل المثل بشيء واقعي ملموس أنت تعرفه لفكرة يجب اعتقادها.
فالكافر الذي ختم الله عز وجل على قلبه يسمع المثل الواضح فيستغرب ويسأل ويقول:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}[البقرة:٢٦] ماذا يريد أن يقول بالضبط؟ إذ ثبت عليه البيان، هذا من الضلال البعيد كما قال الله عز وجل:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:١٨]، فتخيل الصورة! ذرات رماد لا تكاد ترى إلا لمدقق، فتصور هذا الرماد في يوم عاصف شديد الريح، هل تستطيع أن تجمع ذرة إلى ذرة، هذا إشارة إلى بعثرة أعمالهم، فلا ينتفعون بذرة منها، ولذلك ختم الآية وقال:{ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:١٨]، وفي هذا المعنى يقول القائل الذي نعى حظه في الدنيا.
إن حظي كرماد فوق شوكٍ نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه عسر الأمر عليهم، فقال بعض اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه فضرب ربنا عز وجل المثل في إهدار أعمال الذين كفروا بمثل هذه الصورة.