وفي غزوة الخندق أصاب الصحابة جوع كما في الحديث، فذبحوا داجناً، وعجنوا كف طحين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باللحم، فجيء به فبصق فيه وبارك ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هي، وإن العجين ليخبزُ كما هو.
الشاهد قول جابر: لقد رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، مع أنه أيضاً كان جائعاً، لكن من شدة حبه نفى جوع نفسه لما رأى الجوع في وجه الرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال ابنه: يا أبت! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ قال: فالتفت إلينا وقال: (لقد رأيتني على أطباقٍ ثلاث) أي: مررت في حياتي بثلاث مراحل: (لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُّ على هذا الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمت جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ فقلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال: فوالله ما كان أحدٌ أحب إلي قط من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووالله ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك، لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلو متُ على هذا الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة) من كثرة هيبة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله لم يملأ عينيه من النظر إلى وجهه.
فلذلك حين سمع الصحابة رضوان الله عليهم قوله عليه الصلاة والسلام:(المرء مع من أحب)، طاروا فرحاً، لأنه المحبوب الأعظم في البشر، فما كانوا يحبون أحداً أكثر منه، ولذلك أنس بن مالك قال كما سمعتم: فما فرحنا بعد إسلامنا كفرحنا بهذا؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فآفة الآفات عندنا أننا لا نعظم النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم الواجب، دعك من أصحاب الدعاوى، فأسهل شيءٍ أن يدعي المرء أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام.
مرةً جمعني مجلس برجل كان يدخن، فقلت: يا أخي أما تعلم أن التدخين حرام؟ فأخذ نفساً عميقاً وأخرجه من خياشيمه، ثم قال لي: يعني ليس مكروهاً فقط؟ فقلت له: هب أنه مكروه ما يحملك على أن ترتكب مكروهاً؟ ثم بدأ يناقش وهو يدخن دون احترام، بدلاً من أن يطفئ السيجارة حتى يقتنع أحدنا بكلام الآخر أو على الأقل احتراماً لمن يخاطبه.
وفي الحقيقة فإنا نجد هذه الأفعال كثيراً؛ لأننا لم نوقر النبي عليه الصلاة والسلام ذاك التوقير الواجب الذي كان ظاهرةً ملفتة في جيل الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
نسألُ الله أن يجعلنا وإياكم من محبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يرزقنا حبه، وحب من يحبه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، واعذروني إذا كنت قد أطلت عليكم، فإن الكلام في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ذو شجون.