اعتراف أبي سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاذباً
قال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا.
فقلت: أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
إجابة ملزمة! يعني: رجل لم تجربوا عليه كذباً، ويتعفف عن الكذب عنكم في قضاياكم العادية، فهل هذا الرجل يكذب على الله؟! هذا الذي يسميه العلماء: القياس الجلي، أو القياس الأولوي.
القياس الأولوي صورته: أن يستدل بنفي الأقل على نفي الأكثر، كقوله تبارك وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣] إذاً هذا من باب أولى يحرم الضرب، لكن لو قال: ولا تضربهما، فكان يجوز أن تقول: أف.
هذا هو القياس الجلي أو القياس الأولوي، فهو عندما ينهاك عن الأقل فقد حرم عليك الأكثر، فقوله: (لا تقل لهما أف)، يعني: من باب أولى الضرب، لكن لو قال لك: لا تضرب، فجائز أن تشتم؛ لأن النهي عن الضرب ليس فيه النهي عن الشتم، لكن النهي عن التأفف فيه نهي عن الشتم وعن الضرب.
فإذا كان لا يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لا يكذب على الله، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
بعد أن سأله عن الكذب سأله عن الغدر.
لماذا أخر الغدر عن الكذب؟ هذا من باب تقديم الخاص على العام، وهنا قاعدة مهمة جداً، يقول العلماء: تقديم الخاص على العام يفيد الاهتمام.
مثلاً لو قلت لك: لا تأكل الضأن ولا اللحم لا فرق بين الضأن واللحم، كان ممكن أن أقول لك: لا تأكل اللحم.
فذكري لتحريم الضأن قبل اللحم يدل على أن الضأن بالذات محرم تحريماً مؤكداً، فتخصيصي لذكر هذا النوع من اللحم قبل ذكر سائر اللحوم دلالة على تأكيد منع هذا اللحم، إذاً هذا فيه اهتمام بالشيء الذي أفردته، الذي هو الخصوص.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي بدأ به البخاري صحيحه: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث في آخره: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) الخاص هنا ذكر بعد العام ولا فرق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرت عيني في الصلاة) وبعضهم يرويه: (حبب إلي من دنياكم ثلاث) لفظ (ثلاث) باطلة، لا أصل لها في الحديث، والحديث نفسه يؤكد أنها باطلة؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، إنما (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب) وبعد ذلك تبدأ بكلام جديد (وجعلت قرت عيني الصلاة) فالنساء من الدنيا بنص الحديث، فكان من الممكن أنه لا ينبه عن المرأة وهي داخلة في الدنيا، لكن طالما أنه أفردها بالذكر رغم أنها داخلة في الدنيا فيكون تأكيداً على فتنتها، كأن يقال: انتبه من الدنيا وبالذات المرأة.
فعندما تفرد هذا الجزء من العام بالذكر فإنك تهتم به، وذلك كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:١٦٢] خصص الصلاة والنسك بالذكر، ثم جمعهما في قوله: {وَمَحْيَايَ} والمحيا منه الصلاة والنسك، لو أن الآية تقول: (قل إن محياي ومماتي) لعلمنا يقيناً أن الصلاة داخلة في الموضوع، لكن كونه يذكر الصلاة والنسك على سبيل الخصوص وبعدها يعمم الكلام، فهذا يدل على تأكيد الاهتمام بهذين: النسك الذي هو الذبح، سواءً كان يقصد به ذبح الحج أو غيره، والصلاة.