للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطأ طالب العلم في الاعتماد على كتب الفروع وإعراضه عن كتب الأصول]

السؤال

يعمد بعض طلاب العلم إلى دراسة كتب الفروع والإكثار منها، دون إرفاقه ذلك بدراسة الأصول، فهل ينتفع طالب العلم من هذا المنهج؟

الجواب

( من حرم الأصول حرم الوصول) لماذا الإنسان يتأرجح ما بين الأقوال المختلفة؟ لأنه ليس عنده أصل ثابت يرجع إليه، والرجل إذا حفظ كل كتب الفروع، مثلاً: حفظ المغني لـ ابن قدامة، حفظ المجموع للنووي، حفظ المحلى لـ ابن حزم حفظ كل هذه الكتب، فلن يصير فقيهاً ولا يستطيع أن يثبت في تقرير الحق؛ لأنك لو كنت درست الأصول تستطيع أن تهدم له الحكم الذي وصل إليه من كتب الفروع، وسيكتشف أنه في النهاية ما هو إلا مقلد، رجل حفظ شيئاً فقاله ولم يتحققه، المشكلة أننا أهملنا الأصول.

لابد في العلم من أصلين مهمين جداً: علم الحديث وعلم أصول الفقه، فعلم الحديث يثبت لك الدليل، وعلم أصول الفقه يثبت لك الحجة، الفهم عن الدليل؛ لأنك إذا تضلعت في علم واحد فقط كنت كالطائر بجناح واحد فقط، فلو كنت محدثاً صرفاً فلن تتمكن من الأصول.

ومع ذلك فليس من العيب الاقتصار على باب من أبواب العلم، إنما العيب أن تتخطى إلى ما لا تتقن، لكن لو وقفت على ما تحسن فلن تعاب، كن محدثاً ولا تتكلم في الفقه، كان الدارقطني رحمه الله محدثاً صرفاً، وليس له كتاب فقهي، لكنه في الحديث إمام يوضع في جبين المحدثين، أملى كتاب العلل من حفظه، وكتاب علل الحديث للدارقطني يعد معجزة باهرة! قال الذهبي: لو كان هذا الإمام أملى هذا الكتاب من حفظه فلا أعلم له في الدنيا نظيراً.

وأنا قبل خمسة عشر عاماً لما ذهبت أنقل من كتاب العلل من دار الكتب المصرية كان أول حديث هو حديث (شيبتني هود وأخواتها) هذا الحديث أنا نسخت فيه حوالي خمس عشرة ورقة كلها في الاختلافات بين الرواة، والله! كان دماغي يلف وأنا أنقل الطرق التي يذكرها الإمام على البديهة، وأنا ناقل فقط، فهي ليست في ذهني، والذي طالع علل الدارقطني يعلم أن الإمام أعظم مما وصفت، ومع ذلك لم يُذكر في باب الفقهاء انتهى.

(آفة المرء أن يتكلم فيما لا يحسن)، فمثلاً جاءت امرأة إلى محدث صرف فقالت له: كان عندي دجاجة وسقطت في بئر ماء فغرقت وماتت، فما حال الماء -يعني: أنتوضأ به-؟ قال: ويحك! لِمَ لم تغط البئر؟ أهذا هو الموضوع؟! قضاء الله نفذ، أنا أريد حكماً على الحالة الواقعة، قال لها: لم لم تغط البئر؟ لأنه ليس عنده جواب على هذه المسألة الفقهية.

لكن الإنسان إذا ضم لعلم الحديث علم أصول الفقه فقد جمع بين الخيرين.

أحياناً يكون المرء فقيهاً، لكنه ضعيف في علم الحديث، وإنما عنده مشاركة، مثلاً يقول: صححه ابن حجر صححه الذهبي، فهو رجل ينقل ومهتم بنقل تصحيح علماء الحديث للحديث، فحين يأتي مبتدع ماكر فيقول له: إن دليلك الذي تتكلم عنه ضعيف فسقط الحكم بسقوط الدليل فيقول له: كيف؟ هذا صححه ابن حجر؟! يقول له: دعنا من باب التقليد، فأنت حينما تقرر الحق تصير مجتهداً، أثبت صحة الحديث، فأنا بإمكاني أن أقول لك: فلان ضعفه، ولن نصل، كما أنني أقرر الحق بدليله هنا وهناك، فقرر أو أثبت لي أنه صحيح.

فيعجز، ولا يستطيع إلا أن ينقل أنه صحيح عن فلان أو علان، حينئذ لو كان ورعاً يتوقف، ويقول: طالما أن المسألة هكذا فدعني أبحث.

فالمبتدع بإمكانه أن ينقض الحكم كله لأنه قد ضيع الدليل، فإذا ضاع دليل الحكم لا يثبت الحكم، إذ لا يتصور فناء الأصل مع وجود الفرع، لكن لو أنه متضلع يستطيع أن يفعل في المبتدعة ما لا تفعله الجيوش الجرارة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية.

فإن شيخ الإسلام ابن تيمية فعل في المبتدعة ما لم تفعله الجيوش الجرارة في الكفار، والإمام الذهبي كان محدثاً من شعر رأسه لأخمص قدمه، وبالرغم من ذلك فقد كان رحمه الله يقول: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث؛ من سعة حفظه، وكنت تتعجب من حفظه وسرده للأسانيد وتخريجه من الكتب، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نصنفه في كتب الطبقات نصنفه في طائفة الفقهاء، ليس في طائفة المحدثين، كان أن الخطيب البغدادي ترجم لـ أحمد بن حنبل فصنفه في طائفة المحدثين، وقد ترجم للشافعي فجعله في طائفة الفقهاء، فغضب عليه الشافعية والحنابلة، لأنه لما قال في الشافعي تاج الفقهاء، قالوا: لم تذكره في الحديث فسلبته الحسن كله، ولما جاء يترجم لـ أحمد قال: سيد المحدثين، قالوا: لم تذكره بالفقه، فأي معنى للحديث بغير فقه؟! لا، الإمام الشافعي كان محدثاً كبيراً، والإمام أحمد كان فقيهاً كبيراً، لكن غلب على هذا الفقه فاشتهر به، وغلب على هذا الحديث فاشتهر به.

فالعالم كلما كان متضلعاً -بالذات بعلم الأصول- يستطيع أن يمضي في الأدلة مضي السهم، لذلك نحن نقول لإخواننا المتأرجحين بين التيارات الموجودة أو الفتاوى الموجودة: لن تعدوَ أن تكون رجلاً من اثنين: إما أن تكون طالب علم جيداً، فإذا عرفت الطريق فاسلك طريق الأصول والدراسة، وإما أن لا يكون لك وقت وليس عندك صبر ولا جلد، ولا تطمع حتى أن تدرس الأصول، فحينئذ انظر إلى العالم أو إلى طالب العلم الجيد الذي تعتقد أنه الأدين والأعلم والأورع فالزم فتواه، لكن إذا جعلت دينك عرضة للخصومات أكثرت التنقل، إذا كنت رجلاً من العوام ما الذي يحملك على أن تنتقل بين الأقوال؟ لماذا تعطي أذنك لكل ناعق؟ إذا عرفت أن هذا هو الحق فالزمه، واصحب من تعتقد أنه الأعلم والأدين والأورع، فليس هناك سبيل إلا هذا.