[الصنف الثالث: صاحب المال فقط]
الرجل الثالث -الذي آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً- شيخ هذه الطائفة قارون، آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، وكل أغنياء الأرض الآن رأس مالهم كله هي الفكة التي كانت مع قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:٧٦] رجل غني جداً.
قارون يضرب به المثل في الغنى، والله تبارك وتعالى قد سجل قصته في آخر سورة القصص، قال عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:٧٦] * {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧] انظر إلى النصائح الجميلة! قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:٧٧].
هنا نكتة لطيفة: كلمة: (ما)، في (فيما)، كان قارون معه مالاً، فقالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:٧٧] أي: ما معك سخره للدار الآخرة.
فـ (ما) هنا يقول العلماء: إنها من صيغ العموم، لكن المقصود بهذا العموم المال دون سواه؛ لأن الذي جاء به السياق هو المال، مع أن اللفظ جاء عاماً شاملاً لكل شيء.
والعلماء يقولون: قد يكون الكلام على جهة العموم ومعناه على جهة الخصوص، كيف؟ مثلاً لفظة: (الناس) عموم، يدخل ضمنها اليهود والنصارى والمسلمين والمجوس وكل الناس، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:١٥٨]، أي: كل الناس، وقد أكد ذلك بمؤكدين: كلمة (الناس) فيها الألف واللام إذا دخلت على النكرة تفيد العموم، وكلمة (جميعاً) في آخر الآية أفادت العموم أيضاً، فالمقصود بالناس هنا كل الخلق.
ونقرأ قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:٢٧] الناس هنا هم المسلمون فقط، مع أن هؤلاء ناس وهؤلاء فهذا لفظ عام لكن معناه الخصوص.
إذاً: ما الذي يجعلنا نعرف أن (ما) في هذه الآية تفيد الخصوص؟ قلنا: السياق؛ لأن السياق من المقيدات، أنت مثلاً لو جاءك ضيف: وقلت له: تفضل، أنت عزيز علي وكريم، تفضل، وعزمته على العشاء.
ماذا تفهم: هل أنا أهين أم أكرم؟ أُكرم.
لكن عندما نقرأ قول الله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٩] إهانة أو إكرام؟ إهانة، دل على ذلك سياق الآيات.
كذلك نحن نقول: السكوت علامة الرضا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تستأذن البكر.
قالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي) يعني إذا قلت لها: يا ابنتي! جاء فلان الفلاني يريد أن يتقدم إليك ويخطبك، فإنها تستحيي وتخفض رأسها ولا تتكلم، إذاً سكوتها هذا علامة رضا، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذنها صماتها).
لكن جاء عن ابن عباس في صحيح البخاري في حديث طويل جاء فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فبلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فقال: فلبست ثيابي وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في الغداة، والرسول صلى الله عليه وسلم في مشربة -المشربة: مثل الحجرة عالية قليلاً- ولها باب.
فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الغرفة ووكل بالغرفة رباح -غلام الرسول- وقال له: اجلس على باب الغرفة حتى لا يدخل أحد، قال عمر بن الخطاب: فجئت فاستأذنت رباحاً.
فقلت له: ائذن لـ عمر.
فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
قال عمر: فجلست بجانب المنبر).
ففهم عمر أن السكوت هنا ليس علامة رضا فلم يدخل، لأن السياق يفهم أن الرسول غضبان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه على حسب الإشاعة الشائعة التي ظهرت.
قال: (ذكرتك له فصمت، فجلست بجانب المنبر، قال: غلبني ما أجد، ثم قلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست، ذكرتك له فصمت ثلات مرات، قال عمر: فلما هممت بالانصراف ووصلت إلى الباب؛ ناداني الغلام فقال: قد أذن لك).
إذاً نحن نعرف أن السكوت علامة للرضا أو للغضب من خلال السياق.
كذلك قصة كعب بن مالك في تخلفه عن غزوه تبوك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر -تبسم- استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك، جاء المعذرون من الأعراب الذين تخلفوا عن غزوه تبوك يعتذرون، والرسول صلى الله عليه وسلم يقبل منهم.
قال كعب بن مالك: (فدخلت عليه فلما رآني تبسم تبسم المغضب)) ابتسم ابتسامة صامتة، ابتسامة غضب.
فالعلماء يقولون: إن السياق من المقيدات.
إذاً كلام قوم موسى مع قارون هو بخصوص المال، و (ما) هنا وإن كان ظاهرها العموم لكن المراد بها المال، أي: ابتغ في مالك الدار الآخرة.
{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] وهنا درس للدعاة إلى الله عز وجل: أن يراعي مقتضى الحال.
عندما تقول لغني: اخرج من كل مالك، دعه وراء ظهرك وتعال ورائي، هذه ليست طريقة دعوة؛ لأنه لن يخرج، لكن إذا قلت له: استمتع بالمباح، كل واشرب على مزاجك، طالما أنه حلال فلا بأس.
لكن هناك من العلماء من قال في تفسير: ((ولا تنس نصيبك من الدنيا)) أنه الكفن، وهذا التفسير فيه قسوة في الدعوة، والأصح أن نجري اللفظ على ظاهره: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] أي: تمتع بالمباحات ما شئت، دون إسراف، ولا تجرده من المال كله.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧] انظر إلى التذكير! يا إخوان! الغنى الطارئ يسوء به الخلق، لذلك تجد الطبيب الذي أبوه طبيب يعامل زملاءه معاملة رقيقة، وطالما أنه أستاذ في الجامعة، أول ما يرى زميله يقول: تعال، تفضل أنت زميلي، ويظهر له التودد والتلطف، هناك فرق بين معاملة هذا الطبيب الذي هو طبيب وأبوه طبيب وجده طبيب وبين الطبيب الذي هو الوحيد في أسرته طبيباً.
كذلك الإنسان العريق في الغنى تجد في غناه طعماً، بخلاف الإنسان الذي طرأ عليه الغنى مثل قارون، يكون لئيماً خسيساً، لا يتذكر نعمة الله عليه.
ولا أدل على ذلك من القصة الشهيرة التي رواها مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ثلاثة ممن كانوا قبلكم أراد الله أن يبتليهم: أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل، فأرسل إليهم ملكاً، جاء للأبرص وقال له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي لوناً حسناً وجلداً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال له: الغنم.
أعطاه الغنم وقال له: بارك الله لك فيه.
ذهب للأقرع: ما تشتهي؟ قال: شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال له: البقر.
قال له: خذ البقر، بارك الله لك فيها.
ذهب للأعمى: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال: الإبل.
قال: هذه ناقة عشراء، بارك الله لك فيها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فكان للأول وادي من الأغنام، وللثاني وادي من الأبقار، وللثالث وادي من الإبل) والوادي بمنتهى مد البصر.
ثم جاءت ساعة الامتحان، فجاءهم نفس الملك، لكن أتى الأبرص بصورة رجل أبرص، لكي يحنن قلبه، عندما يراه يقول: سبحان الله! أنا كان شكلي هكذا، الحمد لله الذي جملني، فيتذكر.
ربنا سبحانه وتعالى من لطفه يعطيه مقتضى يتذكر به البلاء فيشكر؛ لأن هناك من الناس من ينسى، فيذكره.
فلما جاء في صورة الأبرص، قال له: (أنا عابر سبيل انقطعت بي الحبال، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني -ما قال له: نصف الغنم أو ثلثها أو ثلاثة أرباعها- غنمة واحدة فقط، أتبلغ بها في سفري، حيث أنني عابر سبيل انقطعت بي الحبال، وليس لدي أي حيلة؟ قال له الرجل (اللئيم): الحقوق كثيرة.
(وهناك أناس يعاملون الله عز وجل بهذه المعاملة، يكون تاجراً كبيراً ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران، وتجده قد بنى عمارة وبدَّل السيارة.
المعلوم أن التاجر الخسران يبيع، لا يسدد ولا يشتري.
هذا التاجر يحسب من الألف مثلاً يكسب خمسين جنيهاً، إذا خسر عشرين يعتبر نفسه خسران، هو يحسبها هكذا، ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران.
إن الله عز وجل يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] وهل الله عز وجل يريد منك شيئاً؟! أنت ملكه! ولقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يد الله ملأى لا يغيضها شيء، سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء) انظر كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لما قرأت هذا الحديث اقشعر جلدي، ثم طلعت في دماغي فكرة: الشارع الذي أسكن فيه به حوالي خمسين بيتاً، فقلت: أنظر الخمسين بيتاً هذه كم تساوي مليوناً، وطبعاً افترضت تفصيل الشقق عندهم مثل شقتي، هناك طبعاً أناس تفصيلهم مختلف، مثلاً واحد هنا يملك (فيلا) في ميدان لبنان مكونة من شقتين فوق بعض، في عمارة بها سبع عشرة غرفة، يريد أن يبيعها بمليون وسبعمائة ألف، يقول لي الشخص الذي كان يستقبل مكالمات المشترين: أحدهم اتصل بي، يقول لي: الفيلا بكم؟ قلت له: بمليون وسبعمائة ألف.
قال: الظاهر أن تفصيلها غير جيد.
انظر يا أخي! هذه الدنيا كيف تمشي، سبحان الله! فأنا قلت: سأحسب تكلفة هذه المباني بعد أن حصرت البيوت، المهم عملت حسبة كانت نتيجة الخمسين بيتاً نحو خمسة وستين مليوناً، باع