[الفرار من الكسل إلى العلم]
المرتبة الثانية للفرار: الفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، وهذه محنة يشتكي منها كثير من إخواننا، ويسأل البعض فيقول: أقرأ في سير السلف فأرى جدهم في العبادة، فأحاول أن أقلدهم لكن سرعان ما تفتر همتي، فما هو السبب؟ أريد كلما قرأت شيئاً عن السلف أن أكون مثلهم في الجد والعبادة، مثلاً أبو مسلم كان يصلي من الليل، فكلما تعبت قدماه كان له عكاز -عصا- يتعكز عليه، وكلما أدركه الفتور والتعب وأحس أن قدميه عجزتا عن حمله، يأخذ العصا ويضرب رجليه، ثم يقول: (والله إنكما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟! والله لأزاحمنهم على الحوض) ثم يقوم يستأنف الصلاة.
فإذا قرأ القارئ منا مثل هذه الحكاية، وقام يريد أن يصلي ويطيل في الصلاة، فبعد نحو نصف ساعة يشعر بالملل ويشعر أن الألم بدأ يدب في ساقيه، ثم سرعان ما يفتر وهو متألم أنه لم يكن كـ أبي مسلم، ثم يسأل: ما هو السبب في هذا الفتور؟ نظهر السبب، ونذكر العلاج في هذه المنزلة من منازل الفرار (والفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً).
إننا أمرنا أن نأخذ أوامر الله ورسوله بقوة وبلا تردد {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٩٣] لا تتردد {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:٧] بقوة، لا تتردوا في الأخذ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:١٤٥] (أحسنها) هنا على نحو ما شرحناه في قوله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:٥٥] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢].
فإذا صح عن الله عز وجل قول، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول فلا تتردد في الأخذ به.
العزم ثم الجد، العزم هو: عقد الإرادة، والجد هو: عقد العمل.
إذاً يلزمك عزم وجد.
إن زادك أيها الفار الهارب من النار إلى الله عز وجل هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين، ولذلك نحن نوصي إخواننا بقراءة كتب التراجم التي عنيت بذكر سير العلماء، وأخص بالذكر منها الكتاب العظيم كتاب الإمام شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء.
وكان أخذ الأمر بالقوة والعزم هو ما أمر الله به كل الأنبياء والأمم، وقد جاء هذا الأمر منه عز وجل لبني إسرائيل ولموسى عليه السلام وليحيى عليه السلام أن يأخذ الكتاب بقوة، وهذا يوجهنا إلى ألا نتردد في إظهار القوة في أخذ كلام الله ورسوله؛ لأن هذا له فوائد: الفائدة الأول: أنك تشد من عضد أخيك الذي ينتظر إظهار هذه القوة.
الفائدة الثانية: أن عدوك يخشاك إذا أظهرت القوة في أخذ كلام الله عز وجل.
فهما فائدتان: فائدة لحبيبك، وفائدة لعدوك.
فعدوك يخافك إذا رأى منك القوة، وصاحبك الذي ينتظر من يأخذ بيده يستفيد أيضاً من إظهار هذه القوة، ومن متابعة الأحداث على الساحة نحن نعلم علماً قطعياً لا يشوبه شك أن اليهود هم أجبن خلق الله عز وجل لأن هذا حكم الله عليهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:١٤] فنحن نعلم أن هؤلاء الناس ضعاف جداً وجبناء، فبينما يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتلويح بالقبضة الحديدية ويصر على دق أجراس الحروب، بينما سائر اليهود يطالبون بمواصلة عملية السلام حتى لا تضيع عليهم المكاسب التي حصلوا عليها من هذه العملية.
فهم بشكل عام يسيرون وفق مخطط مدروس، وبناء على خطة السلام المزعوم فكان من الواجب أن يتفق العرب مع اليهود على مكاسب معينة، ولكن هذا (النتن) جاء وشدهم إلى ما قبل الاتفاق، حتى إذا وصلوا إلى ما اتفقوا عليه أول مرة إذا بالعرب يفرحون به ويعدونه مكسباً؛ لأنهم ضعفاء لا حيلة لهم، فبعد هذا الشد القوي أول ما يبدأ يرخي فإنهم يعتبرون أن الجلوس معه -مجرد الجلوس معه- مكسب؛ وما ذاك إلا لأنه أظهر قوة أمام أناس في غاية الضعف.
ووفق المخططات اليهودية فإن حرباً توشك أن تندلع بيننا وبين اليهود، خلال عشر سنوات، وهذا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ترجمت للعربية، إلا أن المسلمين لا يقرءون، فكل الذي جاء في تلك البروتوكولات من سنوات طويلة يحدث الآن بالحرف الواحد، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، فالذي يحدث الآن على الساحة مكتوب، وهم يخططون قبل سنة ألفين أو بعد سنة ألفين بحولي سنتين لانقضاضة قوية على بلاد الإسلام، لكن لا يمكنهم الله عز وجل أمام هذا التنامي للصحوة الإسلامية في ديار المسلمين؛ لأن الدنيا تغيرت، ووجه الساحة تغير بهؤلاء الشباب هذا الجيل الذي استعبده الله عز وجل وخلقه لطاعته، فهذا يظهر القوة؛ فالضعيف يخاف، والقوي يضع يده في يده.
فكذلك أمر الله عز وجل إيانا أن نأخذ أوامره بقوة لا تخف؛ لأن الله عز وجل الذي أنزل هذا الكتاب هو المهيمن على أقدار الناس جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦].
إذاً المنزلة الثانية من منازل الفرار -بعدما صححت معين الأخذ، ووقفت على أول طريق النجاة-: أن تبدأ في العمل بهذا العلم الذي خرجت به من ظلمات الجهل.
السبب في أن عزمنا ينفسخ، ولا نستطيع أن نقلد أسلافنا: أن الدين على ثلاثة أنحاء: إسلام، وإيمان، وإحسان.
اجتناب للحرمات -المحرمات- وفعل للواجبات والمستحبات.
أبو مسلم -الذي ضرب رجليه بالعصا، وهب منتفضاً كله عزم ونشاط ليواصل الصلاة- تمم الواجبات واجتنب المحرمات؛ فسهل عليه أن يصل إلى درجة الإحسان، لكن بعضنا مقصر في الواجبات، ملابس للمحرمات، لكن يدركه علو الإيمان في فترة من الفترات، فيقرأ مثل هذه الحكايات فيريد أن يرتفع، فإذا بالأغلال تشده.
من أراد أن يكون كهؤلاء السلف فليتمم أبواب الواجبات، وليكف عن أبواب المحرمات؛ ليصل تلقائياً إلى درجة الإحسان.
لذلك يسيخ عزمنا بسرعة؛ للفرق الذي بيننا وبينهم.
ومن الأئمة الكبار، أبو حصين رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عالماً، وكان شديد الورع في الفتوى، حتى أنه كان يقول: (إنكم لتفتون الفتوى التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر) يعني: يقول ما أجرأكم! لو عرضت هذه المسألة على عمر لخاف أن يفتي، ولجمع لها أهل بدر يستشيرهم، وكان أبو حصين من أعلم الناس.
وكذلك الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكان له مذهب مثل مذاهب الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الفقهية ليست محصورة في أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي لا، المذاهب الفقهية كانت كثيرة، كان هناك مذهب لـ سفيان الثوري، وكان هناك مذهب لـ سفيان بن عيينة، وكان هناك مذهب لـ إسحاق بن راهويه، وكان هناك مذهب لـ داود بن علي، وكان هناك مذهب للإمام الأوزاعي -الذي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - وكان عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي من أقران الإمام مالك، فـ مالك كان في المدينة والأوزاعي كان في الشام، وكان الأوزاعي جليلاً كبيراً، عظيماً معظماً عند العلماء، لدرجة أن سفيان الثوري -رضي الله عن سفيان كان شامة في جبين الزمان- لما رأى الأوزاعي في السوق يركب دابته أخذ سفيان الثوري بلجام دابة الأوزاعي يسله من الزحام، وهو يقول: أوسعوا لبغلة الشيخ.
وجاء رجل لـ سفيان الثوري وقال: يا أبا محمد! رأيت كأن وردة خرجت من أرض الشام إلى السماء.
قال: ويحك! لو صدق ما تقول فإن الأوزاعي قد مات.
فجاءه نعي الأوزاعي في آخر النهار.
وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: لا زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي.
كان هذا الإمام الكبير قواماً بالليل، تالياً لكتاب الله عز وجل، سريع الدمعة، غزير العبرة، حتى قال مترجموه: أن أجفانه ذبلت من البكاء، فكان إذا صلى بالليل وأراد أن يخرج اكتحل، وشد أشفار عينيه حتى لا يظهر هذا الذبول.
وكذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني -وهو من طبقة الإمام مالك أيضاً، وإن كان أكبر منه في السن- كان إذا ذكر بالله عز وجل جرت العبرة من عينه فتخللت أنفه، فكان إذا شعر بذلك قال: سبحان الله! ما أشد الزكام! حتى لا يسأل عن هذا الماء الذي يتساقط من أنفه.
أنت إذا أردت أن تصل إلى مثل هذا كيف تصل وقد لابست بعض المحرمات؟! فهذه الأخبار وردت عن التابعين، والصور في حال الصحابة أجل وأعظم! عبد الله بن عمرو بن العاص لولا صحة الأسانيد إلى حكايته ما كاد المرء أن يصدقها، عبد الله بن عمرو بن العاص كان يختم القرآن كل ليلة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أختمه كل ليلة) وكان رضي الله عنه شديد الاجتهاد في العبادة، وكان يشتاق للصلاة، فلما تزوج ترك امرأته وقام يصف قدميه لله عز وجل، حتى عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجد في العبادة، وهذا الجد في الصيام، فقد كان يصوم كل يوم، ويختم القرآ