فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم رباحاً حاجباً على الباب، فجاء عمر فاستأذن، وقال له: استأذن لـ عمر.
وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء نفسه إذا استأذن، وفي هذا حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، قال:(استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قلت: أنا.
فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا! كأنه كرهها).
يقول ابن الجوزي: إنما كرهها النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيها نوعاً من الكبر، كأنما يقول: أنا الذي لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا تعريف نسبي، وكلمة (أنا) هي التي أهلكت إبليس لما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}[الأعراف:١٢].
فلعل قائلاً أن يقول: في قصة صاحب الجنة المتكبر في سورة الكهف لما تحاور مع صاحبه استخدم المؤمن كلمة (أنا) أيضاً، قال تعالى:{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:٣٤]، فرد عليه المؤمن وقال:{إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}[الكهف:٣٩ - ٤٠]، فلماذا استخدم المؤمن كلمة (أنا)؟ نقول: الفرق بين استخدام المؤمن لـ (أنا) واستخدام المتكبر لـ (أنا): أن (أنا) عند الرجل المتكبر هي محور الارتكاز، بحيث أنك لو فرغت كلامه من (أنا) لا تجد لكلامه معنى، فكلامه يدور حول تمجيد نفسه، بخلاف المؤمن فقد يقول:(أنا) عرضاً؛ ولكنه لا يدور عليها ولا يعتبرها كاعتبار المتكبر لها.
فهيا بنا نطبق هذا الكلام على الآيتين: الرجل الذي طغى قال: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:٣٤]، احذف (أنا) من الكلام واقرأ: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكثر منك مالاً) فإنك ترى الكلام غير مستقيم، لكن إن حذفت (أنا) من كلام المؤمن فسيبقى مستقيماً، {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا}[الكهف:٣٩] احذف (أنا): (إن ترن أقل منك مالاً وولداً)، ألا ترى أن الكلام مستقيم؟! وإنما ذكر (أنا) في مقابل (أنا) فقط، وكما حدث لقارون لما وعظه قومه فطغى عليهم وبغى:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٨] إنما هذا الذي جمعته بعبقريتي وذكائي وجدي وحساباتي الدقيقة، فهذا أيضاً يدور حول نفسه.
فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كره أن يقول الرجل المجهول الذي لا يعرفه صاحب الدار:(أنا)، والسنة أن تعرف نفسك.
ولذلك قال عمر:(جئت فقلت: استأذن لـ عمر -فسمى نفسه- قال: فدخل ثم رجع، وقال: ذكرتك له، فصمت).
وفي هذا دليل على أنه ليس كل سكوتٍ علامة الرضا.
ولم يفهم عمر بن الخطاب أن السكوت علامة رضا، بدليل أنه لم يدخل.