[شكر الله على نعمة العلم ورد الفضل إليه]
هل ذكر ربنا سبحانه شيئاً غير العلم؟ ذكر العلم، فلما قالا: (الحمد لله الذي فضلنا) دل على تفضيلهم بالعلم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:١٥] انظر إلى حكمة التواضع وهضم حق النفس! ولا تظن مهما أوتيت من العلم والفضل أنك وحيد عصرك وفريد دهرك، أو أنك إنسان عقمت أرحام النساء أن تلد مثلك لا.
كم في الزوايا خبايا وكم في الناس بقايا والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره)، فسبحان من يعلم أقدار خلقه إلا هو! رجلٌ يمشي على الأرض بقدميه مثلنا، يوم يموت يهتز له عرش الرحمن! ما هي قيمة هذا الرجل وما قدره لكي يهتز له عرش الرحمن؟! فلا تحتقر أحداً، ولا تظن أنك أفضل الناس، بل كلما هضمت حظ نفسك ارتقيت، فإن من خالف الهوى حصل له ضد الهوي، كما يقول العلماء، أنت تعلم أن (هوى): أي: نزل، فإذا خالفت الهوى ارتفعت، فالإنسان إذا خالف هواه ارتفع، وربنا تبارك وتعالى قد عاتب نبياً من أولي العزم أن صدر على لسانه كلمة مثل هذه.
ففي الصحيحين من حديث أبي بن كعب: (أن موسى عليه السلام وعظ بني إسرائيل وذكرهم حتى رقت القلوب وذرفت العيون، فانطلق فتبعه رجلٌ، فقال: يا كليم الله! تعلم أحداً في الأرض هو أعلم منك؟ قال له: لا -فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، لماذا تقول: أنا لا أعلم أحداً أعلم مني؟ قل: الله أعلم.
فعاتبه الله أنه لم يرد العلم إليه- قال الله له: إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك).
موسى عليه السلام الذي يريد أن يتعلم، والله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤]، وكل ما نبل قدر الإنسان جمع أنفس الأشياء، وهو العلم، فموسى عليه السلام عندما سمع هذا الكلام، (قال: رب! كيف لي به؟) أنا أريد أن أطلب العلم على يديه، مع أنه كليم الله، وأحد أولي العزم، واتفق العلماء أن موسى أفضل من الخضر وأعلم، ولكن موسى عليه السلام لما عاتبه ربه حين لم يُرجع العلم إليه، قال: كيف لي به؟ (قال: خذ معك مكتل وحوت) الحوت: سمكة كبيرة تشويها وتتغدى بها أنت وغلامك، يوشع بن نون، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:٦٠]، وهنا لفتة لطيفة فيها فضل العلم! ولم يكن يوشع عبداً لموسى، إنما قيل له: فتى؛ لأنه كان متعلماً وتلميذاً، فأخذ من هذا بعض العلماء حين قالوا: من علمني حرفاً صرت له عبداً، كما أن يوشع صار فتى لموسى، مع أنه لم يكن خادماً له ولا مملوكاً، وإنما لما تبعه على شرف العلم صار فتىً له، أي: صار بمنزلة العبد إذا أمره ائتمر.
والمكتل: -مثل الإناء-، ثم انطلق والسمكة المشوية حين ترجع لها الحياة ستقفز إلى الماء فعندها يعرف أنه في هذا المكان.
فالسمكة المشوية في مكان معين في مجمع البحرين قفزت من المكتل ونزلت البحر، وكان موسى عليه السلام نائماً، فقام فتاه يوقظه، وبعد أن استيقظ من النوم واصلا الرحلة، وفي أثناء الطريق قال له: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:٦٢] فقال له: أنا نسيت أن أقول لك: إن في المكان الفلاني خرج الحوت من المكتل ونزل الماء، قال: هو هناك إذاً {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤]، فرجعوا يقطعون الطريق مرة أخرى، لأنهم قد مروا وتركوا مجمع البحرين، وأمسك الله الحوت عن الجريان في الماء -جعله ساكناً في الماء- حتى إذا رجع موسى يراه، فبينما هو ينظر في الماء رأى الحوت محبوساً في وسط دائرة معينة، فقال: إذاً هو هنا، فلقي رجلاً متدثراً بعباءة خضراء -ملاءة خضراء- قال له: السلام عليكم.
قال: وهل بأرضي سلام؟ قال: من أنت؟ قال: أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل؟ قال له: بلى.
قال: يا موسى! اعلم ورأى عصفوراً مر من فوق الماء وأخذ قطرة ماء صغيرة، فقال له: هل ترى هذا العصفور؟ قال: نعم.
قال: علمي وعلمك إلى علم الله كهذه القطرة التي أخذها العصفور بالنسبة للبحر!!.
هل تعلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ كأنه يقول له: ليس معنى أن ربنا سبحانه وتعالى أرسلك ليعلمك أن عندي شيئاً، فهو يعلمه التواضع الذي عاتب الله موسى عليه.
فأول درس أخذه موسى عليه السلام قبل أن يركبا في السفينة هو التواضع: علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله -وهذا مجرد تمثيل، وإلا فالمسألة أقل من هذا بكثير، كهذه القطرة التي أخذها العصفور من هذا البحر العظيم.
فانظر إلى موسى عليه السلام كيف عاتبه الله مع رفعة مكانته، وأنت تعرف أن الإنسان كلما عظمت مكانته كلما تظهر عيوبه.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢]، قال لهن: (لستن كأحد من النساء) أي: لستن مثل النساء.
حسناً ما الذي يترتب على هذا إذا صرن نساء فاضلات؟ قال: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:٣٠]، لماذا؟ لأنها ليست مثل النساء، وفي نفس الوقت قال لهن: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:٣١] لأنهن أيضاً لسن كالنساء، إذاً: يضاعف لهن العقوبة ويضاعف لهن الثواب.
فداود وسليمان عليهما السلام احترزا وقالا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:١٥]، إذاً: هناك أفضل منهما لكننا أفضل من كثير من الناس، فدل هذا على أنهما يعترفا أن من خلق الله عز وجل من هو أفضل منهما، وهذا يزيد المرء رفعة: (من تواضع لله رفعه)، (ولا يزال المتكبر في سفال حتى يخرج من غروره).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:١٥] هذا القيد مهم؛ لأنك عندما تقول: أنا أفضل من نتنياهو؛ إذاً: أنت بهذا شتمت نفسك، فلا يصح أن تقول: أنا أفضل من الكافر؛ لأن الكافر ليس له فضل أصلاً، إنما إذا أردت أن يظهر فضلك فقارن نفسك بأهل الفضل.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ عندما تأتي وتقول لي: هذا السيف أحسن من العصا، فأنت بهذا انتقصت السيف.
إذاً: قول سليمان وداود عليهما السلام فيه دلالة على أن المرء لا يحرز النبل والفضل إلا إذا قورن بأهل الفضل، ليس مثل أي أحد في الدنيا لا، {فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:١٥]، وهذا يدلك أيضاً على تفاضل أهل الإيمان، وهذا ثابت في ديننا في القرآن والسنة، أن أهل الإيمان يتفاضلون بالإيمان عند الله تبارك وتعالى يوم موتهم، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل، أي: أنك عندما تعترف بفضل أخيك المؤمن عليك إياك أن تتصور أنك أنت تحط من نفسك لا، بل كلما اعترفت بفضل الناس زاد فضلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما دعا رجل لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله له به ملكاً يقول له: ولك مثله) أيهما أفضل؟ الذي يدعو له الملك يدعو له، أي: إذا أنا دعوت لأبي فقلت: اللهم ارحمه.
دعائي قد لا يستجاب، فيقول الملك: ولك بمثل، فدعاء الملك مستجاب، إذاً: الداعي هو الأفضل؛ لأن الملك هو الذي يدعو له، لكن أنت تدعو لصاحبك، فانظر أنت بهذا صرت أفضل، فأنت عندما تأتي تقول: فلان أعلم مني وأفضل مني إياك أن تتخيل أنك تحط من درجتك لا.
جلس سفيان بن عيينة رحمه الله في مجلس يخطب الناس، فسأل: هل هناك أحد من أهل الكوفة؟ قال فلان: أنا.
قال: ما فعل - الوليد بن مسلم مثلاً أو أي عالم من العلماء؟ قال له: مات.
قال: فهل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات.
قال: هل فيكم أحد من بلاد ما وراء النهر؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات.
قال: هل فيكم أحد من مصر؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قال: مات.
فحينئذٍ بكى سفيان وأنشد قائلاً: خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ أي: أنا ما وصلت إلى هذا السؤدد إلا أن الديار خلت ولم يبق إلا مثلي.
وكذلك أبو سفيان رضي الله عنه: ما ترأس المشركين في أحد إلا بعد ذهاب أكابرهم.
فـ سفيان بن عيينة كأنه يقول: إني سدت الديار لما خلت من هؤلاء الأكابر، مع أني لا أستحق هذه السيادة هل وضع هذا من قدر سفيان؟ خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ -أي: وأنا لا أستحق التسويد- ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ يشعر لهذا كل إنسان جرد القصد لله -عز وجل- من أهل العلم، يحس بالمحنة عندما يكون وحده في الساحة، إياك أن تتخيل أن العالم الذي قصد الله عز وجل أن يكون منبسطاً أن كل الخلق حوله لا، إنما يشعر بالمحنة أنه وحده؛ لأن القصد مصلحة الناس، مهما كان العالم جليلاً لا يستطيع الناس جميعاً أن يجتمعوا في مكان واحدٍ فيسمعوا كلام الله ورسوله.
ولكن تخيل أن البلاد هذه فيها -مثلاً- ألف عالم، إذاً: نحن ضمنا أن الحق والهدى سيصل إلى أغلب الناس أم لا؟ وليس أن الواحد لوحده مشهور ومحبوب، وكل الناس حوله، فيصير هذا يدعوه إلى الفرح لا بل هذه محنة، مثل كلام سفيان: أن الإنسان إذا كان فريداً لا يجري معه أحداً من أهل الفضل في مضماره أن هذه محنة، وليست منحة ولا شيئاً.
إذاً: فضلك يظهر بمقارنتك بأهل الفضل وليس بكل الناس؛ ولذلك خصص داود وسليمان عليهما السلام المؤمنين، إذ لا يظهر لهم فضل إلا في وسط أهل النبل -أهل الإيمان: {