للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله

معنى كلمة التوحيد أنني كما أفرد ربي بالعبادة ولا أشرك به أحداً، سأفرد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع كما أن الله واحدٌ لا شريك له في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا شريك له في الإتباع، وإذا اتبعنا عالماً بعده، إنما اتبعناه بقوله، فكل شيءٍ راجعٌ إليه في الحقيقة.

وأشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك نصٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم من عالمٍ ثقةٍ عالمٍ بالصحيح والضعيف، فتيقن أن الذي يأمرك الآن هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أردت أن تحقق معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه، يعني في هذا الجمع الذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون جمعاً مباركاً، قد يوجد في هذا الجمع من يلبس خاتماً من ذهب أو دبلة من ذهب، ابتُلِي بذلك إما لضعف إيمانه، وإما لجهله، وأرجو أن لا يكون لهواه، المهم أنه يلبس الذهب، فإذا قلت له الآن: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الصحابة يوماً ومعه الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فأقول له: إن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأنه قال: (هذا حرامٌ على ذكور أمتي) فتوهّم وأنت تسمع هذا الحديث الآن أن الذي أمرك به هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يسعُك أن تتخلف، تخلع الذهب أم لا؟ يا من تلبس الذهب الآن، لو أنك واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام الآن، وقال: اخلع عنك هذا، قل لي بأمانة، أتخلع الذهب لو كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أمرك الآن؟ الذي أعتقده أنه سيقول: نعم.

فأقول له: ما الذي جعلك تتباطأ حتى الآن ولا تخلع الذهب فور سماعك لهذا الحديث؟ لأنك لم تحقق معنى (أَشهد)، ما حققتها، لو اعتقدت أنه هو الذي أمرك ما أظنك تتخلف.

وخذ هذا المثل العالي الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن رجلاً كان يلبس خاتم ذهب، وجاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الخاتم نزعه نزعاً شديداً وطرحه على الأرض، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يده، فلما همّ الرجل أن ينطلق؛ قال له بعض الجلوس: خذ خاتمك انتفع به قال: (لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) لا يأخذه بعدما طرحه أرضاً، رغم أنه يجوز له أن يبيعه وينتفع به، لكن كبُر عليه أن يمد يده ويأخذه وقد طرحه النبي صلى الله عليه وسلم!!.

فهلا خلعت خاتمك يا لابس الذهب بعد هذا الكلام بلا خجل؟ كنت عاصياً فرجعت، هذه منقبة ومحمدة، وهذه هي الهجرة الواجبة إلى أن تلقى ربك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأنت مهاجرٌ إلى الله كل يوم ما من معصيةٍ تدعها إلى طاعة إلا وقد تحقق لك رسم المهاجر وسمته، فأنت مهاجرٌ إلى الله عز وجل، فإذا خلعت هذا الذهب فاحمد الله أن نفسك حيَّة، وإذا لم تجرؤ على خلع الذهب فابك على نفسك أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: ما من نصٍ يصلني عن هذا النبي الكريم إلا وأعظمه وأُبجِّله كما لو كان هو الآمر به.

وقد سُئِل تقي الدين السبكي رحمه الله كما في رسالته بيان قول الإمام المطلبي الذي هو الإمام الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) سُئل عن إذا كان رجل مثلاً يتمذهب بمذهب من المذاهب المشهورة، شافعياً كان أو حنفياً أو حنبلياً أو مالكياً أو ظاهرياً، وكان المذهب على خلاف الحديث أيترك المذهب للحديث؟ قال: نعم، طيب أيكون مخالفاً للمذهب؟ يعني: هو شافعي وجاءه نص بخلاف المذهب الشافعي، فأخذ بالحديث وترك المذهب، أيكون قد خرج عن كونه شافعياً؟ قال: لا، لأن الشافعي يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) فلو أن الشافعي وقف على ما وقفت لصار إليه، ثم قال: وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: افعل كذا وكذا أيسعه أن يتخلف؟ ما أظن أنه يجرؤ.

ضرب الصحابة أروع الأمثلة في هذا الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان الواحد منهم شديد الحساسية، مرهف الحس.

ابن عمر رضي الله عنهما سئل مرةً عن أكل لحم الغراب: أحلال أم حرام؟ فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، فقال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟ من الذي تطيب نفسه أن يأكل الغراب والنبي عليه الصلاة والسلام سماه فاسقاً؟ هذا الحس العالي كان يسير حياة هؤلاء حتى في اختيار اسم ابنه سالم بن عبد الله بن عمر.

روى الطبراني في المعجم الأوسط بسندٍ فيه لين أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان في مجلسٍ فيه عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله، فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا السيف، وخذ هذا الرجل واضرب عنقه على باب القصر، فأخذ سالم السيف وأخذ الرجل ووصل به إلى الباب ثم قال له سالم: هل صليت الصبح؟ قال: نعم، قال: فخذ أي طريق شئت -اهرب بجلدك- ثم رجع سالم إلى الحجاج بسيفه، فسأله الحجاج أقتلت الرجل؟ قال له: لا، قال: لم؟ قال: إني سمعت أن أبي هذا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) ما أستطيع أن أجور على رجلٍ في ذمة الملك، هذا في ضمان الملك، وفي حماه ما أستطيع، والحجاج مع أنه كان غاشماً وظلوماً، لكنه أحياناً كان يقف، عنده أشياء تنم عن دين، فمثلاً مرة طلب القبض على رجلٍ فلم يجدوه، فقبضوا على أخيه، أول ما قبضوا على أخيه هدموا داره، ومنعوا عطاءه من بيت المال، وحلَّقوا على اسمه (أي: وضعوه في القائمة السوداء، كلما يقبضوا على الناس يأخذوه) فالرجل قال: أريد أن أكلم الأمير.

أوصلوه إلى الحجاج، قال: أيها الأمير! طلبتم القبض على أخي فلم تجدوه، فقبضتم علي وأنا مظلوم، هدموا داري، ومنعوا عطائي، وحلّقوا على اسمي، فقال له الحجاج: هيهات أولم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرةٍ ونجا المقارف صاحب الذنب فقال: أصلح الله الأمير، فإني سمعت الله يقول غير ذلك! قال: وما يقول الله؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:٧٨ - ٧٩] فحينئذٍ أطرق الحجاج، ثم صفق بيديه وقال: علي بفلان، وهو قائد الشرطة فقال له: ابن لهذا داره، ومر له بعطاه، وامح اسمه، ومر منادياً ينادي أن صدق الله وكذب الشاعر.

فيقول سالم: إن أبي هذا حدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) فعقّب عبد الله بن عمر، وقال لابنه: (كيس) يعني ذكي تفهم، (إنما سميتك سالماً لتسلم)، هذا الشاهد: (سميتك سالماً لتسلم)، كل شيء في حياة هؤلاء الصحابة كان يحركه الاتباع.

فأنت إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: لا يصلك عنه كلامٌ صحيح على لسان رجلٍ أمينٍ ثقةٍ إلا وتعتقد أن هذا الرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرك، ما أظنُّك حينئذٍ تتخلف، تخلع الذهب فور ما تسمع هذا الكلام، وكذلك تخلع الدبلة، ذهباً كانت أو فضة، أما الدبلة على وجه الخصوص فلأنها من شعائر النصارى وليست من دين الإسلام، الدبلة لها قداسة معروفة عند النصارى؛ ولذلك عندما يكون خاطباً يلبس الدبلة باليد اليمنى، ولما يتزوج ويعقد يضع الدبلة في يده الشمال، لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن هذه الإصبع فيها عرق لطيف جداً تحت الجلد، وهذا العرق هو الوحيد الذي يمتد من اليد إلى القلب مباشرةً، فدرجوا على كتابة اسم المرأة على دبلة الرجل، واسم الرجل على دبلة المرأة، طبعاً من داخل الدبلة، لماذا؟ لأنه حين يلبس دبلته واسمها في الداخل متاخم لهذا العرق، فالنتيجة ماذا؟ يأخذ حناناً على القلب مباشرةً فالرجل هذا لن يفكر في امرأة إلا هذه المرأة دون غيرها، فمعنى هذا الكلام أن هذا العرق يخرج من اسمها وينبض عليه، ويأخذ الجرعة والشحنة فليس في قلبه إلا هذه المرأة، وكذلك الرجل، فهذا تقليد نصراني لا يحل، لا تلبس دبلة فضة ولا حديد ولا أي شيء، الدبلة بالذات، لكن لا بأس أن تلبس الخاتم، لأن الخاتم زينة للرجال، يعني: لو تلبس الخاتم تزيّن أصابعك، وتلبسه بلا مناسبة.

فخلاصة الكلام أن معنى أشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك كلام فانفعلت له ونفذته فأنت فعلاً تشهد أن محمداً رسول الله، إذا لم تفعل ذلك فشهادتك ناقصة، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كأي كلمة تقال.