[من ضياع الأمانة: التلاعب بالقرآن وتحريف آياته]
كان عمر بن الخطاب يشدد غاية التشديد في الذي يلعب بمعنى آيات القرآن ليس بالقرآن أنت تعرف أن ابن عربي في تفسيره آيات القرآن، ليس المعنى فقط، بل الآيات نفسها، فهو يقول في قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] معناها ليس كما تفهمون ولا تقرءون، هذه فيها إشارة إلى الذل في العبادة، ما هو مفهومها؟ قال: من ذل ذي يشف عِ.
يعني: (من ذل) من الذل (ذي) اسم إشارة إلى النفس، أي: من ذل نفسه يشف من الشفاء (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام ويعتبر هذا تفسيراً.
هذا عمر بن الخطاب كاد أن يقتل صبيغ العراقي ضرباً بسبب مسألة ليست كهذه؛ فإنه كان يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) والذاريات: هي الريح، وصبيغ العراقي ما كان يسأل عن (الذاريات ذروا) لأنه يجهل معنى هذا اللفظ، لا.
العرب كانوا يفهمون القرآن، لكن صبيغاً أراد شيئاً آخر غير المعنى اللغوي، وهذا ما فهمه أبو موسى الأشعري، لذلك أرسل إلى عمر بن الخطاب وقال له: إن هنا رجلاً يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) فقال عمر: ابعثه إلي.
وبعد ذلك قال له: أرسله لي على إكاف بعير، وانتبه أن تبعثه على بردعة لينة طرية، إنني أريدك أن تكسر عظمه في الطريق، والإكاف نوع من الخشب فإذا قفز البعير وهو ماشٍ يكسر عظمه في الطريق، وهذا نوع من العقوبة العاجلة.
فأرسل إليه صبيغ العراقي ومعه رسول، ولما جاء صبيغ العراقي كان عمر بن الخطاب قد جهز الجريد الأخضر فأول ما دخل قال له: صبيغ العراقي!! تعال فسحبه وجعل يضربه بالجريد الرطب الثقيل المؤلم، فظل يضربه إلى أن أدمى ظهره، ثم تركه يومين أو ثلاثة حتى بدأ الجرح يخف ثم جاء به وضربه مرة أخرى حتى أدمى ظهره، ثم تركه، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام جاء به كذلك لكي يضربه قال له: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، يعني: أموت مرة واحدة وانتهى الأمر، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت.
ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل لـ أبي موسى الأشعري وقال له: لا أحد يكلمه، ولا يسلم عليه، فطال عليه ذلك فشكا إلى أبي موسى الأشعري ما يجد من الوحشة -فلا أحد يكلمه، ولا أحد يسامره- فأرسل أبو موسى الأشعري إلى عمر يخبره أن الرجل قد تاب وحسنت توبته، فأذن بالكلام معه.
فانظر إلى الصحابة كيف كانوا يعظمون القرآن؛ ولذلك لم يحدث التفسير الباطني ولا التفسير بالإشارة إطلاقاً على عهدهم أبداً، وهذا اللعب بآيات القرآن والضياع التي الأمة المسلمة تجرعته في القرون التي أتت بعد ذلك سلم منه عصر الصحابة لشدة حرصهم، وفي نفس الوقت حزمهم بالنسبة للقرآن، انظر في صحيح البخاري في كتاب الحدود ستجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائلهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله -هذا رواه البخاري وغيره، لفظ البخاري لا أحفظه فربما زدت شيئاً من الروايات الأخرى- لكتبته على حاشية المصحف) انظر التوقي! لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتب حكم الرجم على حاشية المصحف، فحفاظاً على القرآن لم يكتب عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره، وكان حكم الرجم آية تتلى ثم رفعت كلها فكان الصحابة حريصين غاية الحرص فالرجل صبيغ لما قال: (والذاريات ذرواً) قصد نفس المعنى الذي قصده عمر كما رواه البخاري وغيره من حديث أنس (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة (وفاكهة وأباً) ثم قال: الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟! ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وما عليك أن لا تدريه) نحن نعرف (الأب) وعمر يعرفه قبلنا كذلك، (الأب) هو العشب، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:٣١ - ٣٢]، فالأب -الذي هو العشب- طعاماً للأنعام، لكن عمر بن الخطاب لم يقصد مطلق اللفظ من أنه لا يدري ما معنى (الأب)، الصحابة كانوا عرباً أقحاحاً، والقرآن نزل بلغتهم لكن عمر قصد شيئاً زائداً على المعنى المعروف لديه يعني: أصله أين؟ وكيف البذرة تلقح؟ والرياح تأخذ ماذا؟ قصد الكلام هذا الذي الآن هم يدرسوه ويسمونه: الإعجاز العلمي للقرآن، ما هو أصل نبات (الأب)، عمر بن الخطاب قصد هذا المعنى، وصبيغ العراقي قصد (والذاريات ذرواً) مثل عمر في تفسير (الأب)، لذلك أنكر عليه عمر بن الخطاب وعاجله بهذه العقوبة.
فالصحابة كانوا يبجلون القرآن ويكبرونه ويحافظون عليه، إنما الذين ورثوا الكتاب بعد ذلك هان عليهم القرآن، يعني: انظر إلى ابن عربي وتفسيره لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:٦ - ٧]، صح عن ابن عباس أنه قال: (إن الله عز وجل أنزل آيتين في المؤمنين، وآيتين في الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين فبعدما ذكر ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣]، ذكر الكافرين، ابن عربي قال: لا.
الآيتين هذه (إن الذين كفروا) نزلت في أهل الورع الذين هم أفضل المؤمنين، وقال: إن معنى (الذين كفروا) أي: كفروا إيمانهم وغطوه لأن أصل الكفر التغطية، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان، وسمي الزارع كافراً؛ لأنه يغطي البذرة في بطن الأرض ويواريها كقوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] فالكفار هنا هم الزراع، وسميت الكفور كفوراً، لأن الكفور هي البيوت التي كفرتها الأشجار فغطتها عن العيون، أشجار متكاثفة فتغطي البيوت عن السائر، فسميت كفوراً لأجل ذلك.
فقال: (إن الذين كفروا) أي: غطوا إيمانهم حتى لا يحبط بالرياء والسمعة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون تهددهم بالناس أو لا تهددهم بالناس لا يصدقون هذا التهديد لماذا؟ لأنهم في معية الله ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غيره -بالشمع الأحمر- وعلى سمعهم فلا يسمعون إلا منه وعلى أبصارهم غشاوة يعني: لا يرون غيره، ولهم عذاب عظيم من المخالفين.
انظر! إذا جاز للإنسان أن يفهم الكلام بهذه الصورة لا يبقى حق على وجه الأرض، لماذا؟ لأن كل حق يمكن أنك تقدر محذوفاً وينقلب إلى باطل فمثلاً لو أن شخصاً يقول: لا إله إلا الله فأي إنسان ممكن أن يقدر أي تقدير ويضيع هذه الكلمة، فلو قال: لا إله إلا الله ولم يقدر (لا إله بحق إلا الله عز وجل) وقال: لا إله إلا أن يأذن الله يحط أي تقدير، الكلام كله يضيع الدين كله يضيع عندما نقول: الذين كفروا إيمانهم، ولهم عذاب عظيم من المخالفين، وختم على قلوبهم فلا يدخلها غيره ولذلك تفسير الإشارة كله لعب بهذه الطريقة.
فالقرآن كان عند الصحابة أعز عليهم من أن يفعلوا به هذا الفعل، ولذلك انظر الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:١٦٩] يرتكبون الموبقات ويقولون: سيغفر لنا.
أحد المقرئين الكبار في عام (٦٥) تقريباً زار مصر رئيس يوغسلافيا جوزف تيتو، فشخص من الجماعة القراء يمازحه ويقول له: أنت اسمك ورد في القرآن، تيتو الله أعلم هل يرد على الجنة أو لا.
فيقوم يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].
وهذا شخص كان يمتحن طلبة في القرآن قال لأحدهم: أنا سأسألك سؤالاً واحداً في القرآن، اذكر لي الآية التي فيها ثلاث (لمون) -أي: ليمون- في القرآن؟ ولو أجبت عن هذا السؤال سأعطيك الدرجة النهائية طبعاً الطالب حافظ، لكنه عصر دماغه لكي يعثر على الآية فلم يعرف يأتي بها نهائياً، وفشل الآخر أنه يأتي بهذه الآية ويقوم الفالح يقول له: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤].