[فضل التسبيح]
فيقول: (أوصيكم بـ (لا إله إلا الله) - الكلمة المباركة التي ينجو بها العبد- وأوصيكم بـ (سبحان الله وبحمده) فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق) قال الله تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:٤٤].
إذاً: هذا التسبيح هو حياة كل شيء، ولذلك الإنسان الذي لا يلهج بذكر الله عز وجل ميت، وذكر الله تبارك وتعالى بالنسبة للقلب كالماء بالنسبة لكل شيء حي، فيه الري وفيه الحياة: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤].
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:٤٤] يدل على أن كل شيء يسبح بحمده، قال بعض السلف: حتى صرير الباب يسبح بحمده، انظر! لما تفتح الباب يصدر صريراً، فهذا الصرير تسبيح، وهذا الحجر الذي تراه يخر يسبح، {وَإِنَّ مِنْهَا} [البقرة:٧٤] أي: من الحجارة {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (لا يسمع صوتَ المؤذن شجر ولا حجر -إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة).
وقد وردت رواية مفصلة في سنن ابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، عن أبي سعيد بلفظ: (لا يسمع صوت مؤذن إنس ولا جن، ولا شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكله مع النبي صلى الله عليه وسلم).
واحتج الذين يقولون: إن الذي يسبح هو الحي وليس الحجر بقوله صلى الله عليه وسلم لما مر على قبرين يعذبان: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، ثم دعا برقائق من جريد -جريدة خضراء- فشقها نصفين ووضع على كل قبر نصفاً وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) وقالوا: الدليل أنه قال: (ما لم ييبسا) فهذا يدل على أنهما إن يبسا لن يسبحا.
ورد العلماء الآخرون على هذا القول منهم الخطابي أبو سليمان وغيره أن التخفيف عن صاحبي القبرين ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما بشفاعته -عليه الصلاة والسلام-، بدليل حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب، فوضع عليه رقائق من جريد، وقال: لعله يرفعه عنه بشفاعتي)، فدل على أن الشفاعة المذكورة أو التخفيف المذكور، ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما هي لشفاعته عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا تعلم خطأ الذين يضعون الأشجار في المقابر أو يضعون الرياحين والورود، وقد توسعوا فيه توسعاً منكراً، كما يفعل بعض مَن يُسَمون بالعظماء في بلاد المسلمين، فإنهم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفرة يأخذون هذه الورود التي لا حياة فيها ولا نداوة ولا طلاوة، ويذهبون إلى قبور الكفرة الفجرة ويضعونها، وقد عقدوا وجوههم مظهرين التألم والتأسف والحزن، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا مررتم بقبور الظالمين فمرُّوا مسرعين حاسري رءوسكم، خشية أن يحيق بكم ما حاق بهم)، زفتا صلى الله عليه وسلم: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار).
ولكن هؤلاء -الذين يسمون بالعظماء- يقولون: تيتو صديقي، تيتو يرحمه الله، وتيتو هذا لم يكن حتى نصرانياً بل إنه شيوعي، ومع ذلك يقول: صديقي وماكاريو رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يترحم المسلم على الكافر.
ومثل هذه الورود أو الأشجار أو الجريد لا يحصل بها تخفيف على صاحب القبر لمجرد النداوة الموجودة فيها، إنما هو لشفاعته عليه الصلاة والسلام في أولئك، وهذا كما قال بعض العلماء خاص به صلى الله عليه وسلم.
فقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤]: يدل على أن كل شيء يسبح كما قال سعيد بن جبير وغيره أن هذا عام في كل شيء، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:٤٤].
ورد في صحيحي البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، زبد البحر: الفقعات التي تكون فوق الماء، وترى هذا لو ذهبت إلى أي شلال أو نافورة يطلع منها الماء بقوة ستجد هذه الفقاقيع، فهذا اسمه الزبد، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:١٧] يتفرقع، ولا أحد ينتفع منه: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد:١٧] ما الذي ينفع الناس؟ الماء، فهذا يمكث في الأرض.
فيقول عليه الصلاة والسلام: (لو كانت ذنوبك مثل زبد البحر فقلت: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفِرَت لك ذنوبك).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل زاد عليه) أي: تزيد فوق المائة، تقول مائة وخمسين أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة على حسب ما يُتاح لك، أو على حسب ما تستطيع فهذا معنى قوله: (إلا رجل زاد على ما جاء به).
وفي صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحارث وهي أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنها جلست بعد صلاة الغداة تسبح الله تبارك وتعالى، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة فوجدها جالسة كما تركها، تسبح؛ فقال لها: أنتِ جالسة منذ خرجتُ؟ قالت: نعم.
قال: لقد قلتُ أربع كلمات أفضل مما قلتيه: سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)، هذه الكلمات النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنها أفضل مما قالته جويرية من صلاة الغداة حتى قرابة الظهر.
وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فـ (سبحان الله وبحمده) صلاة كل شيء كما قلنا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} [الإسراء:٤٤] فالتسبيح صلاة.
{وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].