[قوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم)]
هذا جزء من خطبته صلى الله عليه وسلم التي حفظها لنا الإمام مسلم في صحيحه وبقية من ذكرتهم، وابتدأها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا)، هذه التوطئة لها دلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث: (وأهل الجنة ثلاثة وأهل النار خمسة).
فهل أهل الجنة محصورون في هؤلاء الثلاثة، أو أهل النار محصورون في هؤلاء الخمسة؟ لا.
لكن هذه الأصناف علمها رب العالمين لنبيه في يومه هذا، وليس المقصود أنهم هؤلاء بالحرف بطبيعة الحال، فإن الذين يدخلون الجنة كثيرون جداً، وكذلك الذين يدخلون النار أيضاً هم أصناف كثيرة جداً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (مما علمني في يومي هذا): يبين لنا أن المرء إذا أراد أن يستوفي حكماً ما؛ فلا بد عليه أن ينظر إلى أطراف الموضوع كله، مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) وكل الناس يقولونها، فمن أخذ بهذا الحديث وحده حكم على الله عز وجل بأنه قال شيئاً لم يقله رب العزة تبارك وتعالى؛ لأن القول في ذاته لا قيمة له ما لم يصحبه عمل، إلا أن يكون هناك نص يبين أن مجرد القول له فائدة، فلا بد أن نرجع في النهاية إلى النصوص.
وفي خصوص هذه الكلمة (من قال: لا إله إلا الله)، هذه تنفعه يوماً من الدهر، كما في الأحاديث الصحيحة: (من قال: لا إله إلا الله؛ نفعته يوماً من دهره)، حتى لو دخل النار وعذِّب وقضى فيها أحقاباً، فإنه ينتفع بها، لكن الإيمان المنجي لا يكفي فيه النطق بالكلمة.
لأجل هذا لا بد -لكي نفهم هذا الحديث- أن نأخذ الأحاديث الأخرى حتى نخرج بالحكم الشرعي الصحيح، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء.
وكذلك في باب الوعيد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة الذي أخرجه مسلم، قال: (من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان) وفي رواية: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: يا رسول الله! وإن شيئاً يسيراً -حلف على شيء تافه-؟ قال: وإن قضيباً من أراك)، يعني: ولو عود سواك، فلو سرق هذا السواك أو ما يشابهه في القيمة فحلف عليه أنه لم يأخذه؛ أدخله الله النار وحرم عليه الجنة.
إذاً: لو أن رجلاً أخذ قضيباً من أراك وحلف عليه فإن عمله هذا ذنب؛ لكن الخوارج يكفرون الناس بالمعاصي ويحكمون عليهم بدخول النار والخلود فيها بهذا الحديث؛ لأن الحديث صريح بعدم خروجه من النار -حسب زعمهم- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)، فإذا أخذ هذا الحديث وحده دخل في دائرة تكفير الناس وانضم لقول الخوارج، مع أن هذه معصية، ومعروف أن المعاصي يتاب منها، والكفر أعظم من المعصية، ولو تاب المرء من الكفر تاب الله عليه.
فلا يصح أن نأخذ الحكم النهائي من نص واحد.
وهذا الحديث عظّم أكل حقوق الناس، ومن يتخذ اليمين جنة يتحصن بها ليأكل حقوق الناس فإنه ينتظره هذا الجزاء، فأنت حين تأخذ هذا الحديث مع بقية الأحاديث والآيات، وأن كل وعيد في القرآن يقع ما لم يتب المرء، وكل وعيد في القرآن يتخلف بالتوبة، كما وعد الله تبارك وتعالى في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وعد الله عبداً فإنه منجزٌ له ما وعد، وإذا أوعد فهو بالخيار: إما أن يعذبه، وإما أن يغفر له) وهذا هو مقتضى الكرم، ففي الوعد لا يخلف أبداً، وفي الوعيد قد يخلف؛ لأن الخلف في الوعيد كرم، والخلف في الوعد لؤم.
فربنا تبارك وتعالى أوفى الأوفياء، إذا أراد فإنه يوفي، وإذا أوعد -أي: هدد- فقد يتخلف وعيده تبارك وتعالى.
فالقصد: أن الإنسان إذا أراد أن يحيط بقضية فلا بد أن يجمع لها أطراف النصوص.