[السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه]
إن الله تبارك وتعالى جعل الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بلغنا نوعين من الوحي: النوع الأول: القرآن.
النوع الثاني: السنة.
لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] أي: ما يتكلم، ما ينطق عن هوى نفسه، إنما الذي ينطق به وحي يوحى، فدل ذلك على أن السنة من الوحي.
ومن أظهر الدلائل على أن السنة من الوحي: قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أوتيت القرآن وأوتيت مثل القرآن مع القرآن، التي هي السنة؛ لأن السنة بالنسبة للقرآن بمنزلة المبين كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤] فلو أن السنة ضاعت ما استفاد الناس من كثير من لفظ القرآن، ولظل القرآن مجملاً في كثير من المواضع.
الصحابة الذين هم العرب الأقحاح لم تدخل ألسنتهم عجمة، وكانوا أولى الخلق بإصابة الحق وفهم الكلام، كان هناك بعض آيات القرآن ما فهموها لولا أن النبي عليه الصلاة والسلام بين لهم.
لما نزل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] فهؤلاء عرب أقحاح -كما قلت- لما سمعوا كلمة (ظلم) هكذا نكرة لأنه ليس فيها ألف ولام، و (ظلم) نكرة في سياق النفي تفيد العموم.
إذاً أي ظلم يقع فيه العبد يخرجه من دائرة الأمن؟ هم هكذا فهموا الآية، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بأي ظلم كان -قليلٍ أو كثيرٍ- {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢].
من الذي لم يخطئ؟ لا أحد: (كل بني آدم خطاء) إذاً: كل إنسان ارتكب الظلم.
ولذلك فهموا أنهم ليسوا في دائرة الأمن؛ وشق عليهم ذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟).
هؤلاء صحابة، لو كان أحد يصيب الحق لكانوا هم، ورغم ذلك لم يفهموا مراد الله من الآية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس كما تفهمون، أولم يقل العبد الصالح -الذي هو لقمان - {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] فالظلم: هو الشرك) إذاً ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام ظهر أن الظلم المقصود في آية الأنعام هو الشرك الأكبر، وليس المقصود به أي ظلم مثل ما الصحابة فهموا.
فالبيان لابد منه؛ ولذلك السنة مهمة جداً بالنسبة للقرآن، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧] كان أحد الصحابة يأتي بخيط أبيض وخيط أسود ويضعه في أصابعه ويظل ينظر فيه، إذا ميز بينهما توقف عن الأكل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي فعل ذلك: (إن وسادك لعريض -يعني: أنت عريض القفا- إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) لكنه نظر، بادر إلى العمل على قدر فهمه.
النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني يقول: إن أول واحدة ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن بأيدي بعض، قالت عائشة: (وما فهمناها إلا حين ماتت زينب رضي الله عنها) أول من ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، فقصر الطول يستتبعه قصر الأعضاء، فعرفن أنه ليس المقصود بها اليد، إنما المقصود بها الصدقة (أطولكن يداً) أي: بالصدقة، فحينئذ فهموا.
لكن الذي يأخذك ويأخذ بمجامع قلبك أنهم يبادرون إلى التنفيذ على قدر الفهم، فنحن عندنا السنة بمنزلة البيان بالنسبة للقرآن، القرآن فيه كثير مجمل: الصلاة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات أمر بإقامة الصلاة لكن لا نعرف كيف نقيم الصلاة متكاملة إلا من لفظ النبي عليه الصلاة والسلام.
السنة من الوحي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني أوتيت القرآن ومثله) مثل القرآن السنة التي هي بيان القرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل:٤٤].
الحديث الآخر الذي يدل على أن السنة من الوحي ما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما سودة رضي الله عنها -وكانت امرأةً بدينة، طويلة، وسودة هذه زوج النبي عليه الصلاة والسلام- خرجت تقضي حاجتها إذ رآها عمر، فقال: يا سودة! انظري كيف تخرجين! فوالله ما تخفين علينا.
فغضبت سودة ورجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تشتكي عمر -وكان في بيت عائشة رضي الله عنها- قالت عائشة: فدخلت فقالت: يا رسول الله! أرأيت إلى عمر، يقول كذا وكذا.
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان في يديه عرق يتعرقه -الرجل الأمامية للشاة، الرسول عليه الصلاة والسلام يأكل اللحمة الملتصقة بالعظم- إذ أوحي إليه، فأخذه ما يأخذه من الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشاتي شديد البرد يتصبب عرقاً)، كما قال زيد بن ثابت: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم ركبته على ركبتي، فنزل قوله تبارك وتعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:٩٥] قال: فثقلت فخذه حتى كادت أن تُرض فخذي من ثقل الوحي).
لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي كادت فخذ زيد بن ثابت تتهشم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أوحي إليه وهو يركب الناقة تبرك على الأرض، لا تستطيع أن تحمله وهو يوحى إليه، تضرب بجرانها على الأرض؛ لأنه وحي! كلام ثقيل! كله تبعات وتكليف! قالت: (فأخذه ما يأخذه من الوحي، ثم سري عنه، فقال لها: إن الله قد أذن لكن في قضاء حوائجكن) ونحن نعلم يقيناً أن هذه ليست آية، لكنها كلمات أوحي بها إليه، قال: (إن الله قد أذن لكن) مما يدل على أن الوحي يكون بالسنة أيضاً.
إذاً: نحن عندنا وحيان: الوحي الأول: القرآن، والوحي الثاني: السنة فإذا أردت أن تصيب الحكم لابد أن ترد الأمر إلى الله ورسوله.