للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم ركون العبد إلى عمله الصالح من مقومات الفرار إلى الله]

لكن يبقى أن نسأل: لماذا ذكر الفرار في الطلب؟ فالفرار عادة ما يذكر في المهرب، وهو مناسب، لكن هل يذكر في الطلب! نعم، إذا كان الفرار يحمل معنى الخوف والفزع فإن الفار إلى الله عز وجل لا يجب عليه أن يثق بعمله وأنه مقبول، بل يعمل العمل وهو خائف ألا يقبل منه، ففراره إلى الله عز وجل -وهو غاية كل طالب- فيها معنى هذا الخوف، وهو: عدم الوثوق بعمله، ولذلك الصحابة الأكابر كانوا يخافون، فهذا عمر بن الخطاب حين تقرأ سيرته وما قاله عند موته تشعر أن هذا الرجل ما فعل حسنة قط، حتى إن بعض الرافضة نشر كتاباً محققاً اسمه كتاب أسنى المطالب في مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب، وكتب مقدمة كلها تنضح بالسم الزعاف؛ وهذا المؤلف من مدينة قم في إيران، وهو أحد آيات الله، وطبعاً عند علماء الحديث عندما يقال (فلان آية) يعني: في الكذب، فهذا مصطلح إخواننا المشتغلين بالحديث.

فكل الآيات عندهم تتنزل على مصطلح أهل الحديث، فلما جاء هذا الرافضي يعلق على كلام عمر بن الخطاب لما قال: (ليت أم عمر لم تلد عمر) قال: فانظر إلى هذا الهالك لو كان يعلم أن له عند الله شيئاً ما قال هذا الكلام! يعني: لولا أنه موقن بالهلاك ما قال هذا الكلام؛ لأن عمر بن الخطاب قال: (لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل) في نفس الحديث، فبالتالي يقول: هذا كلام رجل غير موقن بالنجاة فنقول: إنما خرج كلامهم هذا المخرج لشدة خوفهم من الله عز وجل.

ولذلك عائشة رضي الله عنها لما خرجت في الفتنة الكبرى رجعت وندمت ندامة كلية على خروجها في الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وكانت إذا ذكرت هذه الفتنة بكت حتى تبل خمارها.

وعمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى الإمام مسلم في صحيحه -قال- من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال عبد الله ولده: يا أبتي! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فاستدار إلينا وقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاثة: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إليَّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلئن مت على هذه الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمت، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، فلما بسط يده قبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أردت أن أشترط، قال: وتشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.

قال: يا عمرو! أوما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها؟ قال: فأسلمت، فوالله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك -لأنني ما كنت أملأ عيني منه؛ إجلالاً له- فلئن مت على هذه الحال -لم يقل: لكنت من أهل الجنة إنما قال:- لرجوت أن أكون من أهل الجنة).

في الأول قال: لكنت من أهل النار، وقطع به؛ لأن الكافر مقطوع له أنه من أهل النار، إنما الرجل المسلم لا يعلم أيقبل عمله أم لا؟ لو وثق بعمله لقطعنا أنه من أهل الجنة، لكنه ما يدري أيقبل عمله أم لا هذا هو الشاهد، ولذلك لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون منه؛ لأنهم سيرجعون إلى الله فيحاسبهم، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق -يعني: يفعل الفعل وهو خائف أن الله يحاسبه-؟ قال: لا يا ابنة الصديق! هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وصدقة، ثم يخشون ألا يتقبل منهم).

فإذاً الفار إلى الله عز وجل يخشى عدم قبول عمله، لذلك فهو يعبد الله عز وجل ما بين الخوف والرجاء.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحسن ختامنا وإياكم، ويتقبل منا سائر أعمالنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.