[الحرص على الأوقات وعدم تضييعها]
(ذكاءٌ وحرصٌ) من أعظم ما يحرص عليه طالب العلم هو الوقت، فالوقت هو العمر، وطالب العلم لا يعرف المجالس التي تضاع فيها الأوقات بغير فائدة ولا يعرف الجدال العقيم، فهذا تضييع للوقت.
ومن علامة حسن التحصيل: الحرص على الوقت، وكان علماؤنا -رحمة الله عليهم- من أحرص الناس على أوقاتهم، وأذكر لكم مثالاً على ذلك: ابن عقيل الحنبلي مؤلف كتاب: (الفنون) وهذا الكتاب في ثمانمائة مجلد، طبع منه مجلدان، ابن رجب الحنبلي في ذيل الطبقات يقول: حدثني رجل أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة.
وابن عقيل هذا كان رجلٌ كالرجال.
أي: له حياته الخاصة، وله زوج وأولاد، وكان عالماً في البلد، فكان يدرس الطلاب، ويقضي بين الناس إلخ، ومع ذلك صنف كتاباً يقع في ثمانمائة مجلد، وهذا الكتاب من الكتب المفقودة!! كيف تسنى له أن يكتب كتاباً في ثمانمائة مجلد؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار أكل الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.
انظر كيف كان يلاحظ أن هناك تفاوتاً في المضغ، ويقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.
فكان رجلاً لا يضيع وقته حتى في وقت راحته.
يقول ابن الجوزي في كلام ما معناه: إن كثيراً من الناس يأتي ليضيع الوقت بحجة أنه مشتاق، ويأتي فيقعد وليس له كلام.
فيقول: ودفع الناس فيه إيغار للصدر -لا يستطيع أن يقول للناس: لا تأتوا.
إذاً: ماذا يفعل؟ - قال: فأعددت لذلك الوقت حزم الدفاتر، وبري الأقلام.
فإذا جاء الناس ينظرون إليه وهو مشغول؛ لأن حزم الدفاتر وبري الأقلام وقطع الورق أمر ضروري، يقول: إنما تركتها لأعملها في حال وجودهم، ويستثمر وقته إذا خلا بنفسه.
والإمام الثقة أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، يقول: دخلنا مصر أنا ورفقة لي، فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي ليلنا ننسخ، قال: فذهبنا إلى درس بعض المشايخ فوجدناه مريضاً، فقلنا: نأكل.
قال: فاشترينا سمكة فلما ذهبنا بها إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر فتركناها وانطلقنا، قال: ولم نستطع أن نشويها فأكلناها نيئة.
وهذا الإمام العلم الكبير عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنت أقرأ على أبي وهو قائم، وهو نائم، وهو يمشي، وهو في الخلاء.
وقال بعض العلماء: أبصرت الخطيب البغدادي يطالع جزءاً وهو يمشي في الطريق، وكذلك الدارقطني كان كذلك، فما كانوا يضيعون شيئاً من أوقاتهم؛ لأن الوقت هو العمر، ولذلك كان العالم منهم عالم بحق.
فإذا تكلم في فنٍ من الفنون تجده بحراً.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الرجل الذي يبهر العقول، تقرأ سيرته فلا تمل، قد كان حريصاً جداً على وقته، وقد بارك الله له في وقته، حتى قال ابن القيم في الوابل الصيب: لقد رأيت منه شيئاً عجيباً، كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة! مع أن الكتابة والتأليف تحتاج إلى استحضار ذهن وترتيب أدلة، وشطب وكتابة، وتقديم وتأخير، أما شيخ الإسلام فقد كان كالسيل الهادر إذا كتب أو ألف، ولم يكن كأحدنا: يبدأ يظلم الغرفة، ثم يستوحي، ويأكل قبلها، ويتناول الشاي وهذه الأشياء تضيع نصف الوقت في الإعداد لهذا الذي سيكتبه.
فهذا الإمام العلم كان أصحاب المذاهب يأتون عنده ليستفيدوا في مذاهبهم ما لا يعلمونه واقرأ المناظرة التي كانت بينه وبين ابن المرحل في الحمد والشكر؛ ستستغرب جداً! إذا رأيت طالب علم يضيع أوقاته مع هذا وذاك وفي مجالس لا فائدة منها فاعلم أنه لن يفلح أبداً، حتى يضرب على نفسه حصاراً في مرحلة الطلب.
ولا تنشغل في مرحلة الطلب بتحضير الدروس والمحاضرات، فإن العمر -إن شاء الله- طويل، وأهم شيء أن تغتنم أيام الطلب، ثم ستظل تدعو إلى أن تموت، فلا تضيع وقت الطلب في الدعوة أو في التدريس أو في المناظرات حتى تحكم أمرك.