(الزجر بالهجر) قاعدة نص عليها العلماء، لكنها تدور مع المصلحة، والزجر: أن تزجر العاصي والمبتدع بهجره، هذا هو معنى قول العلماء:(الزجر بالهجر) مثلاً: رجل عاصٍ تؤدبه امرأة ناشز تؤدبها بالهجر مبتدع تؤدبه بالهجر، وكل هذا في إطار المصلحة الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) هجر ثلاثة من خيار المؤمنين خمسين ليلة، هجر كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع؛ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، بل قال كعب:(وكنت آتيه في مجلسه فألقي عليه السلام، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكلموا هؤلاء الثلاثة.
وأيهما أولى بالهجر: كعب بن مالك أم عبد الله بن أبي ابن سلول؟ وهو رأس المنافقين، الذي تولى كبر حديث الإفك، ورمى السيدة العفيفة الطاهرة عائشة بالزنا، أيهما أولى أن يهجر، وأن يضيق عليه الخناق، وأن يؤدب؟ أليس هذا المنافق رأس المنافقين أولى بذلك؟! ومع ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:(يا رسول الله! أفلا نقتله؟ قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وعاش هذا الرجل، وقد صان دمه وعرضه وحياته بإظهار كلمة الإسلام، ومات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ بل وكفنه ببردة له، وليس ذلك بنافعه عند الله، كونه يتدثر ببردة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن صلة الرحم أقوى من البردة، ومع ذلك فإن أبا لهب لم ينفعه أنه كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(يا صفية! عمة رسول الله! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً، يا فاطمة! بنت محمد! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً)، فإذا كانت صلة الأرحام لا تنفع؛ فالبردة لا تنفع من باب أولى، ومع ذلك صلى عليه، ودفنه، وسجاه ببردته وهذا يدلنا على أن مسألة الهجر خاضعة للمصلحة، فإن المسلم إذا هجرته إنما وكلته إلى دينه.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:(بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، فأعطاه عطاء، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً كذا وكذا، وإنه لمؤمن.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني لأعطي الرجل العطاء، وأذر من هو أحب إلي منه، أدعهم لإيمانهم)، إذاً: أخوك المؤمن لو هجرته وغلظت عليه فإنك تعلم أنك ستعود إليه ويعصمه إيمانه من الفجور في الخصوم.
وفي معجم الطبراني الكبير بسند قوي عن سالم بن عبد الله بن عمر قال:(عرست في زمان أبي -أي: تزوج- فآذن أبي الناس، ودعاهم إلى وليمة العرس، وستروا البيت ببجاد أخضر -أي: شبيه بالستائر- قال: فجاء أبو أيوب الأنصاري، فلما رأى البجاد وقف، وتغير لونه، والتفت إلى أبي، وقال: أهكذا تسترون الجدر ببجاد أخضر؟! قال سالم: فاستحيا أبي وخفض رأسه -وابن عمر أحد السادة الورعين- وقال: يا أبا أيوب! غلبنا النساء -ماذا نعمل؟ هذا عمل الحريم! - فقال أبو أيوب: لئن خفنا أن يغلب النساء أحداً فلا يغلبنك، والله لا أكلت لكم طعاماً أبداً، وخرج أبو أيوب ولم يحضر وليمة العرس).
إنه يكل ذلك الهجر إلى عبد الله بن عمر وإلى إيمانه، فإن ابن عمر لا يفجر في الخصومة، بل سوف يذهب إليه ويترضاه لما بينهما من الإيمان والآصرة القوية، لكن إذا كان الرجل فاجراً، رقيق الدين، فإذا غلظت عليه فجر في الخصومة، وازداد بعداً من الالتزام، فليس هناك أي مصلحة في أن تفعل معه مثل ما فعل أبو أيوب مع ابن عمر، فالمسألة مرتبطة بالمصلحة والمفسدة، ولذلك تحتاج إلى فقيه، كثر التهاجر والصرم بيننا بسبب الجهل الواقع بين المسلمين، لا يتهاجر عالمان أبداً إلا على شيء ديني شرعي.