[الصحابة وحرصهم على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم]
قال: (فأردت أن أستأنس) وهذا من فطنة عمر ومن ذكائه، فالرسول عليه الصلاة والسلام غضبان، فلابد أن يحدث عمر جواً من البهجة ومن الود حتى يستطيع أن يتكلم.
يقول: (فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ قومٌ نغلب نساءنا، فقدمنا على إخواننا من الأنصار فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم.
فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام).
يقول: يا رسول الله! أنت أخذت بسيرة الأنصار فهجرنك ونشزن عليك، فلو أخذت بسيرة القرشيين ما وصل الحال إلى ما وصل إليه.
وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك فيه دلالة على أنه رضي سلوك الأنصار في معاملة النساء، ففي سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نساء يشتكينه أن أزواجهن يضربونهن، فمنع من ضرب النساء، فجاء عمر فقال: يا رسول الله! ذئرن النساء على أزواجهن).
فالرسول عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الضرب، قال: فما بقي بيتٌ إلا فيه ضرب.
فطاف على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف على آل محمدٍ سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، وليس أولئك خياركم) أي: ليس الذين يضربون هم خياركم لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خيرهم ولم يضرب نساءه ولا ينبغي ضربهن إلا أن ينتهكن حرمات الله عز وجل.
قال عمر: (فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعمر يريد أن يخلق جواً من الأُنس، حتى يلطف عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما به، وقد كان بعض الصحابة يمزحون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان هناك صحابي يلقب حماراً، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فلما جيء به وقد شرب الخمر، جلد فلعنه أحد الصحابة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعن الشيطان على أخيك) وقال في الرواية الأخرى: (إنه يحب الله ورسوله) فيمكن أن يجتمع حب الله ورسوله في قلب العبد مع بعض المعاصي التي يتلبس بها.
وأيضاً صحابي جليل لا يعرفه كثير من المسلمين، اسمه زاهر، روى الترمذي حديثه في الشمائل، وكان زاهر دميم الوجه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان زاهر لطيفاً، فأبصره عليه الصلاة والسلام ذات يوم في السوق، وكان زاهر من البادية يأتي إلى السوق أحياناً ليبيع ويشتري، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، جاء من ورائه وأغمى على عينيه، فجعل زاهر يقول: مَن مَن؟!! ويحرك يده، فلما وضع يده على يد النبي صلى الله عليه وسلم عرفه، وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلصق ظهره ببطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته في السوق: (من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: إذاً يا رسول الله تجدني كاسداً -أي: بضاعة خاسرة- قال له: لا، ولكنك عند الله لست بكاسد -وفي الرواية الأخرى- قال: لا، ولكنك عند الله غال).
فإحداث جو من الأنس كان يعمله بعض الصحابة، فـ عمر بن الخطاب لما رأى النبي متكدراً أراد أن يحدث هذا الجو، فلما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست).
وجعل عمر بن الخطاب يدير عينيه في الغرفة، فلم ير فيها شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة.
ولو أن أحدكم دخل بيت بعض الأمراء أو بعض الأثرياء ونظر إلى الحيطان وإلى النمارق والسجاد، لرأى قمة الأبهة والفخامة، فـ عمر بن الخطاب ينظر إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فيه، فلم ير شيئاً يملأ العين غير ثلاثة جلود -جلود مدبوغة- هذا هو الموجود في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله.
قال عمر: وكان متكئاً فجلس) (جلس) أي: اعتدل.
وهنا طرفة حدثت بين الكسائي وبين هارون الرشيد، وكان الكسائي يهذب هارون الرشيد ويعلمه، فدخل الكسائي على هارون فقال له الرشيد: اجلس.
فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين؛ -أي: لا تقل: اجلس، ولكن قل: اقعد، قال: وما الفرق؟ قال: القعود من القيام، والجلوس من الاتكاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.