للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شروط جيل التمكين]

كنت -مرة في القاهرة- تكلمت عن جيل التمكين وعلاماته وشروطه وما أشبه ذلك، فكان مما قلت: إنه ينبغي علينا أن نوقف أولادنا لله مثلما نوقف المصاحف وسبيل الماء وغيرها.

امرأة حضرت لأول مرة خطبة جمعة كما حدثني ابنها -وهوأخ ملتزم نحسبه على خير- وأخوه لم يكن ملتزماً بذلك القدر، وحضر معه أيضاً هذه الخطبة، فبعدها تأثرت الأم وجمعت أولادها ووعظتهم وأحسنت القول لهم.

ورجل آخر كان يصلي الجمعة منذ زمن طويل، عندما سمع الخطبة وانفعل لها، قال ولده: توجه إلى البيت ينادي امرأته: أين الأولاد فكلهم جاءوا يظنون أن هناك مسألة خطيرة من وجهة نظرهم، قال لهم: أنتم كلكم وقف لله تعالى، ثم اهتم بتربيتهم وواصل ذلك معهم.

وابنه حتى الآن لما يتصل بي أسأله: ما أخبار أبيك؟ فيقول: ما شاء الله، استقام على شرع الله.

سبحان الله! قد ينفتح القلب أحياناً من كلمة لا تظن أن تؤثر ذلك التأثير، وربما قد سمع هذا الشخص مواعظ تهز القلوب هزاً، وتصعقها صعقاً، لكن ما بلغ القلب لم يكن هو المطلوب.

إنني أنصح الآباء الذين يخوفون أولادهم من المجيء إلى المساجد، ويحذرونهم من السجن والإرهاب وغيرها من هذه الأوهام التي ليس لها حقيقة، ولئن يبتلى المرء في الله خير له من أن يبتلى في الدنيا.

ثم هناك فرق بين المسجون جنائياً والمسجون لله وفي الله، أو المسجون السياسي أو الفكري.

فالمسجون جنائياً ذليل مهان، يلعن نفسه ويلعنه الناس.

بخلاف المسجون في قضايا الفكر مثل الشباب المسلم الملتزم، لما يسجن تجده محترماً عزيزاً يدعو له الجميع بالفرج والعاقبة الحسنة، وهو مع ذلك مأجور بصبره، وقدوته الأنبياء والصالحون والعلماء، فهذه فروق بين من يبتلى في الله ومن يبتلى في الدنيا.

لابد للجميع من أن يبتلوا في هذه الدنيا، ولكن تختلف الابتلاءات، هذا يبتلى بامرأته تؤذيه، وهذا بابنه، وهذا بجاره، وهذا بمديره في العمل إلى آخر ما هنالك.

فكل إنسان مبتلى.

فلما يكون بلاؤك في الله سبحانه وتعالى فهو شرف لك؛ لأن هذا اصطفاء من الله، اصطفاء لا ابتلاء فقط، اصطفاء من الله أن تبتلى فيه تبارك وتعالى.

فالمفروض أن يتشرف الآباء إذا ابتلي أبناؤهم من هذه الابتلاءات في سبيل الله.

ولابد أيضاً أن نكون أذلاء مع إخواننا المؤمنين، لا أن نتخاصم وكل يعرض عن الآخر حتى لو كان الاختلاف سائغاً فلا داعي لأن نحمل على بعض الحملات والتباغض وغير ذلك.

فنحن نحتاج إلى أن نعد نظرة تقييمية لهذا المجتمع: إنه لا يتحمل وكزة واحدة من ساعد شخص قوي؛ لأنه متهالك.

تعرفت على ولد أمريكي سنه اثنين وعشرين سنة، من خيرة الشباب الذين قابلتهم، شاب أمريكي أبيض، مسلم مذ كان عمره خمسة عشر سنة، ويتكلم اللغة العربية جيداً، ولسانه منطلق بالعربية، إذا تحدث معك لا تشعر أبداً أنه أمريكي، ففي الحقيقة أعجبتني طريقته في الكلام فسألته: كيف تمكنت من تعلم العربية؟ قال: أنا أسلمت وسني خمسة عشر سنة، وأحببت هذا الدين حباً لا نهاية له، فوجدت لساني يذل له.

وقال: وجدت نفسي أستوعب العربية بسرعة ملحوظة، في أقل من سنة تمكنت من التحدث بالعربية.

أقول: حينها شعرت بمدى ما نحن فيه من النعمة أننا عرب، ليس بيننا وبين القرآن حاجز، ترغب أن تقرأ القرآن؛ تفتح المصحف وتقرأ، ترغب أن تقرأ في السنة تفتح الكتاب وتقرأ.

كانت محاضرتي لهؤلاء الأمريكان حول صدق الرجاء في الله، وأن من صدق رجاؤه في الله لا يخيبه؛ لأنه أكرم من أن يخيب رجاء من رجاه.

إن الله عز وجل إذا وعد عبداً فإنه منجز له ما وعد، وإذا أوعد فهو له: إن شاء عذب، وإن شاء غفر.

خلف الوعد شين وعار، وخلف الوعيد كرم، إخلاف الوعد لا يليق بالله، فتعالى الله الملك الحق أن يخلف الوعد، لكن يخلف الوعيد، فيلتقي كرمه في إنجاز الوعد، وكرمه في إخلاف الوعيد، بأن لا يعذب، فهو أكرم الأكرمين تبارك وتعالى! وذكرت قصة جريج، وقصة أصحاب الغار، وقصة الساحر والراهب، وأنا أتكلم برغم أن أكثرهم لا يفهم اللغة العربية، لكن كانوا مشدوهين، وكان بعضهم يبكي، فلما ترجم صاحبنا لهم ما قلت صارت مناحة، فأحسست بغربتهم، فهم قلة.

مثل هؤلاء ومثل العرب كمثل البصير والأعمى، الأعمى يريد أن يعبر الشارع ينادي: خذ بيدي.

لا يستطيع أن يعبر الشارع وحده، لا يستطيع أن يخرج من البيت لقضاء حوائجه وحده، دائماً محتاج، وهذا ذل، فكذلك هذا الإنسان الذي يريد أن يفقه كلام الله ورسوله.

هزتني جداً كلمة قالها أحدهم هناك، لما كان آخر يوم في المؤتمر بكى بشدة! وقال: نحن من الآن يتامى!! من بعد ذهابكم وانطلاقكم ونهاية المؤتمر نحن يتامى!! والله -يا إخواننا- إن هذه الكلمة تتردد في جنبات نفسي حتى هذه الساعة، ما استطعت أن أنساها أبداً، ولن أنسى شكله وهو ينتحب، ويقول: نحن يتامى.

فهذا المجتمع الكافر لا يحمل أسباب الحياة في ذاته، وإنما قام على ضعفنا، فإذا تخلصنا من ضعفنا سقط؛ لأننا الذين أعطيناه مقومات البقاء، فالبدار البدار قبل الفوات! وهذا تقرير أمين أضعه بين أيديكم حتى يتصرف كل إنسان بما يليق بدينه، كل إنسان في عنقه أمانة، فلا نلقى الله عز وجل خونة يوم نلقاه، إنما نورث هذه العزة وهذا الدين ونحن أقوياء ومعنا أسباب الحياة، وهم يعلمون هذه الحقيقة جيداً، يعلمون أن هذا القيد لو انكسر، فلن يقف دوننا أبداً وما نريد حاجزاً، وإننا يوم نرجع إلى الله عز وجل سنطأ هذه الأرض بأقدامنا.

أمريكا قارة كاملة، ما بين نيويورك في الشرق وولوس أنجلس في الغرب سبع ساعات طيران، مثل ما تصل من الشرق إلى الغرب.

ونحن نطير فوق الولايات كنت أقول: ما أحلم الله! كل هذه الولايات تعج بالكفر والفسوق والعصيان، والذين يركبون في الطائرة معنا كذلك، ونحن أيضاً مذنبون، وهذا الأسطول الطائر ما بين السماء والأرض سبحان من يمسكه في جو السماوات! ومع ذلك يحلم عنا، ويمسك هذا الأسطول الطائر، وهؤلاء يرتعون في نعمه ويعصونه وهو حليم.

وإذا رجع واحد من هؤلاء قبله وما يعاتبه، وقد يرفعه من مستنقع المعاصي إلى قمة الولاية ويصطفيه.

فما أحلم الله تبارك وتعالى! فلا نريد أن نغتر بالله ولا بحلمه علينا، وأنه لم يعاجلنا بالعقوبة حتى الآن مع كثرة معاصينا، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦ - ٨].

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.