[كيفية الخروج من مرحلة الاستضعاف]
خروجنا من هذا المأزق بإعادة النظر في التعليم الشرعي، تقدم لي مشكلات وبكل أسف من طلبة في المعاهد الأزهرية نجحوا بتقدير عال (٩٠%) و (٩٣%) و (٨٧%)، والطالب منهم يريد أن يدخل كلية الشريعة؛ لأنه مؤمن برسالة معينة، ويريد أنه يصل إلى درجة أستاذ في كلية الشريعة، يريد أن ينصر الله ورسوله، فيعترض عليه أهله، ويقولون له: تطلع في الآخر (فقي)؟!! أربيناك من أجل أن تكون في الأخير (فقي)؟! ومعنى كلمة (فقي) أي: فقيه، فكيف كانت هذه هي النظرة للفقه والفقهاء؟ كانت بسبب الإعلام الرسمي الذي حط من منزلة الفقهاء.
فيأتي لك بفلم، وولد خطب بنتاً من أهلها باسم الحب، ويريد أن يتزوجها باسم الحب، فيذهبون إلى مأذون يلبس العمامة والكاكولا، فيقول لهم: خلصونا بقا!! وهل هي في اللغة العربية لفظ (بقا)؟! فما المقصود من هذه العملية؟ المقصود منها تحقير هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ولا زالوا يحطون من قيمة أساتذة العربية، من أيام دانلوك الذي وضع نظام التعليم القذر في بلادنا ونحن زرعناه في البلاد العربية، بينما مدرس الإنجليزي طيلة عمره محترم، وحصة الإنجليزي والفرنساوي والفيزياء والكيمياء تكون الحصص الأولى، وحصص اللغة العربية تكون الحصص الثالثة والرابعة، أما حصة الدراسات الإسلامية فلا تكون إلا في السادسة، عندما يكاد الطالب أن يقفز من فوق السور، ووصل إلى درجة من الإعياء أنه لم يعد قادراً على استيعاب أي شيء.
وفي نفس الوقت رفعوا درجات اللغة الإنجليزية، ورفعوا مرتب أستاذ اللغة الإنجليزية، فإذا كان مدرس اللغة العربية يأخذ أربعة جنيهات فإن مدرس الإنجليزي يأخذ اثني عشر جنيهاً، وهذا فيه تحقير، إذاً: من سيدخل قسم اللغة العربية إذا كان سيأخذ أربعة جنيهات؟! لذا فالأب يقول لابنه: ادخل يا بني قسم اللغة الإنجليزية حتى تحصل على إثني عشر جنيهاً، ومضافاً إلى ذلك الدروس الخصوصية، ولأنك ستكون ترجماناً، والترجمة الفورية مطلوبة في كل مكان.
ثم أعطوا مادة الإسلامية لمدرس اللغة العربية؛ لأن مدرس اللغة العربية مستواه الاجتماعي منخفض، فعندما يعطونه حصة الدين يكون الدين كذلك، ويأتون بمدرس اللغة العربية وهو يلبس (البنطال أبو الحمالات) وكل دقيقة يشد ويمط في (حمالات البنطال والحمالات تلسع) ويجعلون منه أضحوكة، ما المقصود من هذا الكلام؟ المقصود تحقير اللغة العظيمة التي نزل بها القرآن، وهذا مخطط قديم ورهيب، وأنا ألح عليكم أن تقرءوا رسالة: (في الطريق إلى ثقافتنا)، لأستاذنا الجليل الشيخ محمود شاكر حفظه الله، وهذه الرسالة فيها تاريخ تغريب التعليم من أيام محمد علي الذي يطلق عليه باعث النهضة الحديثة إلى الآن، رسالة يشيب شعرك وأنت تقرؤها، والشيخ محمود شاكر كانت له مساجلات عظيمة على صفحات مجلة الرسالة يوم أن كان لها قيمة، ثم نشر هذا التراث على شكل كتاب باسم أباطيل وأثمار، اقرءوا هذا الكتاب، فهو دفاع عن العربية وذود عن حياضها، ضد لويس عوض، وعبد العزيز فهمي الذي كرموه بأن عملوا اسمه على مترو مصر الجديدة.
إذا ذهبت لتركب من مصر الجديدة ترى على المترو اسم عبد العزيز فهمي، والذي كان يطالب بأن تحل اللغة العامية محل اللغة العربية، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله الأخ الأكبر للشيخ محمود شاكر له رسالة عظيمة في الرد على عبد العزيز فهمي، معارك على كل الجبهات، أين رجالنا على كل الجبهات؟ هل عندنا كوادر يقاتلون هؤلاء؟ لا.
ليس عندنا كوادر، إنما عندنا أشباه فقط، ومن أعظم أبواب الخلل اشتباه العالم بشبيه العالم؛ لأن الجاهل يأتي فيتزيا بزي العالم، فيظنه الناس عالماً، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك، ويذكرني هذا بأبيات لـ تأبط شراً، وهو شاعر جاهلي اسمه ثابت بن جابر، ولقبوه في كتب الأدب بـ تأبط شراً، فيحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني أن رجلاً ثقفياً أحمق قابل ثابت بن جابر، وكان تأبط شراً رجلاً ضعيف البنية، فقال: بِمَ تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال له: باسمي! ساعة أن ألقى الرجل فأقول له: أنا تأبط شراً ينخلع قلبه!! فآخذ منه ما أريد، فقال له: بهذا فقط؟ قال: فقط.
ففكر الثقفي قليلاً وكان يكنى بـ أبي وهب، فقال له: هل تبيع لي اسمك؟ يعني طالما أنك تخوف الناس باسمك فلماذا لا تبيعه لي؟ فقال له تأبط شراً: بكم تشتريه؟ قال له: بهذه الحلة الجيدة وبكنيتي، فقال له تأبط شراً: وافقت، فخلع الرجل حلته، وقال له: هذه الحلة وأنت أبو وهب، فقال له: هنيئاً لك، وأنت تأبط شراً، واتفقوا على ذلك، وهذا لا شك أنه حمق عظيم، وقام تأبط شراً بكتابة أبيات وأرسلها إلى امرأة الثقفي يقول فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه اكتنى بي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأسٌ كبأسي وسَوْرَتي وأين له في كل فادحةٍِ قلبي أي: هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قوة قلبي، وأخذ جرأة جناني وجلدي على الأحداث؟! ما أخذ ذلك، فتزيا أبو وهب بزي القوي، وتصور نفسه أنه تأبط شراً وذهب إلى ذي بأس ماذا سيقول له: أنا تأبط شراً (بصوت شاحب منخفض)؟!!! مع أن الرجل ليس له قلب شجاع أصلاً.
مثلما حصل في حرب الخليج، إذ صرح الرئيس الأمريكي وقال: نحن نناشد الرئيس العراقي صدام حسين ألا يريق الدماء! ونحن نعلم أن جيشه رابع جيش في العالم، وأن لديه خبرة في الحرب الميدانية؛ فهو يحارب منذ ثماني سنين، ونحن قد جهزنا ثمانية عشر ألف كفن، فيقول صدام حسين: حقاً أمريكا تخاف مني!! فماذا عملوا به؟ لعبوا به وأدخلوه الحرب، مثل الأحمق الثقفي، ليس له قلب ولا ساعد وظن نفسه تأبط شراً، وذكرني بالمثل الخرافي الذي كان يحكى لنا من زمان وهو: كل شخص يقتل يحل محله عفريت، فيحكون مرة أن هناك رجلاً عجوزاً قُتل، فعفريته ضروري أن يكون على عكاز، المهم أن العفريت عندما طلع بعدما قتل الرجل كان ماسكاً للعكاز ولا يستطيع أن يقوم من مكانه، فكان هناك رجل يمشي هكذا، فقال له العفريت: يا بنيّ! خذ بيدي حتى أقوم لأخيفك؟ فاليوم عندما يلبس رجل العمامة وكاكولا ويجلس على كرسي، أو يقولون له: أنت مدير الأوقاف، أو أنت مقيم شعائر، أو أنك في لجنة الفتوى، هو ليس بعالم وليس عنده مؤهلات العلماء، لكن الحكاية طلعت في دماغه وكبرت، وهذا من أعظم أبواب الخلل.
لذلك نحن نضع دائماً صورة العالم الرباني الذي يرجع إليه؛ حتى لا يلتبس عليكم، فالناس الذين يذهبون إلى مقيمي الشعائر ليحصلوا منه على فتاوى في الطلاق هذه جناية على الفروج؛ لأنهم جهلة لا يعرفون حدود الطلاق ولا الرجعة.
إذاً: معرفة العالم مسألة ضرورية في مرحلة الاستضعاف، حتى تعلم من العالم الذي إذا ناداك قلت له: لبيك، ومن شبيه العالم الذي إذا ناداك أخرسته، وعرفت أنه لا يتبع، إذاً: مرحلة الاستضعاف مرحلة خطيرة جداً، ونحن في مفترق الطرق.
هذه مقدمةٌ ضرورية في كلامنا على الاستضعاف، فنحن سوف نرسم البيت المسلم الذي ينتج لنا ديناً يستحق التمكين، إذا أردت أن يمكن لولدك فماذا تفعل؟ افعل كذا وكذا وكله من القرآن والسنة كما هو دأب علمائنا، إذ في القرآن والسنة كفايةٌ لمن اعتبر وادكر، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.