للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث أم زرع وذكر بعض فوائده]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

فدرسنا هذا المساء بعنوان: (ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وسنستعرض هذه الليلة الحديث الشهير المعروف بـ (حديث أم زرع)، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدروس لإعادة الدفء الذي حل محله البرود في البيوت، وصارت الشركة بين الرجل والمرأة قائمة على أنها هي أخف الضررين، فكثير من البيوت تقوم بسبب الأولاد، مع أن الرجل يتمنى لو أنه فارق المرأة والمرأة تتمنى لو أنها فارقت الرجل، وكلاهما يعيش مبغضاً للآخر، لكنه يصبر بسبب الأولاد، ولو لم يكن بينهما أولاد لتفرقوا كل في ناحية.

هذا الدرس وأشباهه يبين لنا أن هذا الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده، سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء، وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء، وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة، ومعرفة حدود طاعة الرجل.

إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف؛ بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف، فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة، وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: (رفقاً بالقوارير)، وحديثنا ليس عن الحد الأدنى أو ارتكاب أخف الضررين في العلاقة الزوجية إنما نحن نرتقي إلى ما هو فوق هذا، ونضرب المثل بالإحسان، وكما سيظهر من خلال فوائد هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أفضل زوج على وجه الأرض.

روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، (باب السمر مع الأهل)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، وكذلك رواه الإمام النسائي في كتاب عشرة النساء، ورواه كثيرون، وسوف الزيادات التي وردت في روايات من لم أذكرهم في أثناء الكلام.

قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية: (جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.

وقالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.

وقالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.

وقالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.

وقالت الخامسة: زوجي إذا دخل فَهِد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.

وقالت السادسة: زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.

وقالت السابعة: زوجي عيايا أو غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك.

وقالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.

وقالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.

وقالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.

وقالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع! أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح.

أم أبي زرع! فما أم أبي زرع عكومها رداح، وبيتها فساح.

ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع! مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.

بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع! طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها.

جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.

قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً ثرياً، ركب سرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، قالت: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).

وفي رواية النسائي قال لها: (ولكني لا أطلقك)، هذه الزيادة وردت عند الإمام النسائي.

هذا حديث ألفاظه قوية جزلة، وقد كانت عائشة رضي الله عنها من أفصح الناس، ولها خطبة في الدفاع عن أبيها أبي بكر الصديق في غاية الروعة، شرحها أبو بكر ابن الأنباري في جزء مفرد، فـ عائشة رضي الله عنها تحكي هذه الحكاية الطويلة والرسول عليه الصلاة والسلام الموصول بالله عز وجل، والذي يحمل أعباء الدين كله، جالس يسمع ويعطي أذنه لها، ثم يعقب على هذا الحديث بأن يختار أفضل رجل ضرب به المثل في هذا الحديث، فيقول لها: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).

وهذا المجلس الذي حكته عائشة مجلس نميمة، وهذا هو الغالب على مجالس النساء.