[الاعتراض على أحاديث في الصحيحين والرد عليه]
هذه القصة التي رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد في الصحيحين، من أصح الأسانيد، قال صلى الله عليه وسلم: (جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك، ففقأ موسى عينه، فصعد ملك الموت إلى الله، وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، وقال: اذهب لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مستها يداك سنة.
فلما نزل ملك الموت إلى موسى عليه السلام وأخبره بذلك، قال: أي ربِّ! ثم ماذا -بعد هذا العمر الطويل-؟ قال: الموت.
قال: فالآن) فيقولون: هذا حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل على كذبه أمور اسمع لتعلم حجم الهجمة الشرسة، وكيف يلعبون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: أولاً: يستبعد هذا من نبيٍ من أولي العزم أن يفقأ عين ملك الموت.
ثانياً: أنه صعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فكأن الله لا يعلم ذلك.
انظر إلى طريقة الاعتراض! بهذه الطريقة يعترض على كلام الله في الوحي المنزل، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤]، وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:١٣]، إذن: هو يعترض على الآية بنفس الطريقة التي اعترض بها على الحديث، يقول: كيف يحملون أثقالاً مع أثقالهم، والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤]؟ كلام الله المنزل يعترض عليه بمثل هذه الطريقة أيضاً، فهلاّ قرءوا كلام أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث، وأنه ليس فيها أي معنى منكر؟ فموسى عليه السلام كان جالساً في بيته، فإذا به يرى رجلاً داخل البيت من أين دخل؟ لم يطرق باباً، والنوافذ مغلقة، وإذا بهذا الرجل يقول: أجب ربك.
يعني: سلم روحك، هذا معنى الكلام، يعني يريد أن يقتله، يريد أن ينتزع روحه، فدفع الصائل مشروع، أي رجل يدخل عليك ويريد أن يقتلك فقاومه حتى لو أدى ذلك إلى قتله.
وموسى عليه السلام فعل بهذا الرجل هذا الفعل لكونه دخل البيت بدون إذن، كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام من أمره بفقء عين الناظر في بيت غير بيته بغير إذن، وهذا حد شرعي، صعد ملك الموت إلى الله عز وجل وقال: (إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت)، رد الله عينه ثم أرسله مرة ثانية، فقال له: أجب ربك، لماذا لم يفقأ عينه في هذه المرة، وفقأ عينه في المرة الأولى؟ لأن ملك الموت عليه السلام كان يأتي الأنبياء عياناً كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح في هذه القصة أيضاً.
فلما أراد الله أن يبتلي موسى عليه السلام، نزل ملك الموت هذه المرة بغير صورته التي يعرفها موسى، فلذلك فقأ عينه، فلما رد الله عز وجل عليه عينه ونزل بصورته التي يعرفها موسى لم يفقأ عينه؛ علم أن الأولى كانت اختباراً وامتحاناً،؛ لذلك لم يفقأ عينه هذا جواب.
الجواب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يقبض نبيٌ حتى يخير)، يخيره الله عز وجل بين الدنيا وبين الآخرة، كما رواه أبو سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوماً فقال: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الحياة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده.
فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله.
قال: فتعجبنا لهذا الشيخ لِمَ يبكي؟ وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير) خيره الله بين ما عنده وبين زهرة الحياة الدنيا، فاختار ما عنده.
فكل نبيٍ يخير بين أن يلقى الله وبين أن يعيش فهم يختارون لقاء الله، ولذلك في آخر الحديث لما قال: (أي ربِّ! ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن) حينئذٍ خُير أنه يعيش بعدد سنوات شعر العجل، أو أنه يلقى الله، فلما خُير وعلم أن ذلك من عند الله اختار ما عند الله، فلما نزل عليه ملك الموت بغير صورته المعهودة وقال: أجب ربك -يعني: سلم روحك- ولم يسبق أن نزلت علامة، أو علم موسى أن هناك علامة، فظن أنه مفترٍ فعاقبه بفقء عينه، ولذلك لم يفقأ عينه في المرة الثانية.
ثم يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت، وهذا خطأ، بل الصالحون يكرهون الموت، وفي هذا يروي الشيخان حديثاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
فقالت: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) ومعروف أن لفظة (كل) من ألفاظ العموم، بل من أقوى ألفاظ العموم.
فهاهي عائشة رضي الله عنها تتحدث عن الكل: (كلنا يكره الموت) فلم يقل لها: لا يا عائشة، ليس كل الناس يكرهون الموت، بل الصالحون يحبون الموت، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التعقيب عليها في هذا، وترك البيان؛ دل على أنه إقرار منه لها.
وأن كل الناس يكرهون الموت، ولكن قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الأمر كما تذهبين إليه -أي: من الفهم- إن العبد الصالح إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له من الكرامة؛ فأحب لقاء الله؛ فأحب الله لقاءه.
وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له؛ فكره لقاء الله؛ فكره الله لقاءه).
فأي معنى منكر -يا عباد الله- في هذا الحديث حتى يقال: هذا كذبٌ على النبي عليه الصلاة والسلام، ويتجرأ على الدعوى أن صحيح البخاري فيه أربعمائة حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام.