همُّ أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة
جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لم أعقل أبويّ قط إلا يدينان الدين) أي: من ساعة ما ولدت لم يكن أبوها على غير دين الإسلام، وكذلك أمها أم رومان، قالت: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا بكرة وعشياً)، كان يأتيهم في الصباح الباكر، ويأتيهم في آخر النهار، وهذا كل يوم، فلما ضاق الأمر على أبي بكر واشتد أذى المشركين خرج مهاجراً إلى الحبشة، وقد كان هاجر قبله إلى الحبشة مجموعة من المسلمين: أربعة عشر رجلاً وثلاث نسوة؛ خرجوا هروباً بدينهم من أذى قريش.
فخرج أبو بكر خلفهم إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أخرج في الأرض -أو قال: أريد أن أسيح في الأرض- وأعبد ربي.
قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرُج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق ارجع وأنا جار لك-أي: أنت في حمايتي-.
فرجع ابن الدغنة فوافى كفار قريش قبيل المغرب، فجمعهم وقال: إن أبا بكر جار لي.
فقالوا له: مره فليصل في داخل الدار ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا.
فأخذ على أبي بكر ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر أن يستعلن بعبادته -هذا أنموذج للرجال الأبطال! - فبدا لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يخرج خارج الدار ويصلي، وكان لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكان يقرأ ويبكي، فتتقذف عليه النساء والأولاد يتفرجون على هذا النمط الجديد الذي ما رأوا مثله قط.
فشكا كفار قريش إلى ابن الدغنة وقالوا: إننا نكره أن نخفر جوارك، ولا نرضى بالذي فعله أبو بكر، فإما أن يدخل وإما أن يرد عليك جوارك.
فقال له ابن الدغنة: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، فإما أن تدخل الدار وإما أن ترد عليَّ جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري.
فقال له: بل أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
وظل أبو بكر رضي الله عنه هكذا والصحابة يهاجرون، حتى أراد أن يهاجر إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تريث؛ فإني أرجو أن يؤذن لي.
فقال: أو ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم).
وفي يوم من الأيام جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، وهذا وقت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي فيه إلى بيت أبي بكر، إنما كان يأتي بكرة وعشية، فلما رآه أبو بكر قال: (بأبي هو وأمي)، وهذه كانت كلمة معهودة عند الصحابة، يقول أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي) أي: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فأنت عندنا أغلى من آبائنا وأمهاتنا.