[أهمية الاعتناء بتراجم العلماء]
وهناك محنة أخرى جسيمة بلينا بها؛ لكن الجماهير من الناس لا تشعر بها، هذه المحنة هي ضياع علوم التراجم.
معروف أن العلم لا يؤخذ إلا من العدل، الإنسان العدل التقي لا يؤخذ العلم إلا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] يعني: توقف في قبول خبر الفاسق.
إذا كان العالم الذي يظل يعرف هؤلاء الناس، هل نتوقف في علمه؟ لا.
لأن الأصل في العلماء العدالة؛ لكن إذا قلنا: إن ثمة عالماً فاسقاً إذاً: لا ينتفع الناس بعلمه لماذا؟ لأن الأصل في كلامه أننا نتوقف.
إذاً: الأصل في قبول العلم العدالة، والعدالة هي: مَلَكَة تحمل صاحبها على ملازمة الدين مع البراءة من الفسق وخوارم المروءة، والمروءة ليس لها حد، فهي تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان.
فمثلاً: ذكر أبو الطيب الوشا في كتابه (الظرف والظرفاء) أن من خوارم المروءة: الالتفات في الطريق.
فهذا كان في الزمان القديم، أيام أبي الطيب الوشا في القرن الثالث الهجري، فكيف في هذا الزمان لو كنت في بلد مثل القاهرة إذا لم تلتفت ستروح في شربة ماء، لا بد أن تتلفت مثل السارق، لأنه ربما يعكس قائد السيارة الطريق فينهي حياتك في صدمة واحدة.
لكن لو أكثرت الالتفات على أيام أبي الطيب الوشا يقبضون عليك مباشرة.
لماذا؟ لأن عندهم لا يلتفت إلا السارق.
وهذا شعبة بن الحجاج رحمه الله إمام أهل البصرة ترك الرواية عن أحد العلماء الثقات، لأنه رآه يركب برذوناً يجري بلا سرج.
فالمروءة كانت عندهم هكذا، لكن المروءة عندنا مختلفة، فكلمة خوارم المروءة تختلف من زمان إلى زمان، ومن عصر إلى عصر، فنحن ننظر مثلاً في عصرنا، ما الذي يخرم المروءة؟ نقول: يخرم المروءة مثلاً كذا وكذا إذاً: لا يجوز للعالم أن يرتكب هذه الخوارم.
لماذا؟ حتى تصل كلمته إلى الناس بلا عقبات.
لكن في هذا العصر يوجد كثير من العلماء، ولا أحد يدون تراجم هؤلاء العلماء ولا يذكر أخبارهم، ولا يذكر عنهم أي شيء.
يأتي بعد مائة سنة مثلاً وهناك من له كتب ومؤلفات وهو كان في زمانه لا يسوى شيئاً لكن بعد ستمائة سنة صار شيخ الإسلام، فينقل عنه من بعده ويقول: وقال شيخ الإسلام فلان الفلاني.
ونحن كلما اقتربنا من الساعة يقل العلم ويظهر الجهل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة: أن يُرْفَع العلم، وأن يكثر الجهل، وأن يقل الرجال، وأن تزيد النساء، ويتبع الرجل خمسون امرأة) انظر إلى الفتنة العظيمة المدلهمة هذه! يُرْفَع العلم؟ (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الرجال ولكن يقبض العلماء).
ولما دفنوا حماد بن سلمة قال عبيد الله بن أبي عائشة: لقد دفنا اليوم علماً كثيراً، وكم أخذت الأرض من العلوم!.