[من لوازم تعظيمه صلى الله عليه وسلم محبته]
اعلم يا أخي! أن هذا الحق إنما ينبني على شيءٍ ضروري، وهو: أن تحبه؛ فإن أحببته حققت هذا الحق الذي له صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! والله لأنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر -مباشرة بلا تردد-: الآن يا رسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي) الحب هنا ليس حب الطبع، إنما هو حب الاختيار، فإن المرء قد يطبع على حب ولده حتى يموت بسبب حبه، لو أصاب الولد شيئاً فإن الأب يتألم على ولده.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب: العيال: أن سفيان الثوري سئل لما مات ولده محمد، وكان ولده الوحيد، وكان سفيان الثوري كلما رآه يقول: يا بني! لو مت قبلي لاحتسبتك، وكان يحبه حباً شديداً فلما مات ولده محمد، سئل: ماذا فعلت يوم مات محمد؟ قال: بلتُ دماً.
بال دماً من الحزن على ولده.
لا سبيل إلى تغيير الطباع فمن المكن أن يحب إنسان إنساناً آخر إلى درجة الهلكة، ويغلب على حبه، مثل حب الوالد لابنه، وحب الطبع لا يحتاج إلى توصية، ولذلك أوصى الله الأبناء بالآباء وليس العكس قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:٨٣] وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦] وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:١٥١] وقال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] وقال جل شأنه: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:٨] وقال عز من قائل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:١٥]، ولم يوص ربنا تبارك وتعالى الوالد بولده إلا في موضع واحد، قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:١١]؛ لأن الوالد مطبوع على حب الولد، ومغلوب عليه، فمثل هذا الحب المطبوع عليه صاحبه لا يقال له: أحب ولدك.
ولذلك ترى الأب عندما يمرض ولده، يذهب ويبحث في أرجاء الأرض عن طبيبٍ يرفع هذه العلة عن ولده بإذن الله، وينفق ماله كله، ويذهب إلى أبعد مكانٍ في الأرض، ثم يموت الولد ويفلس أبوه! لا يندم الوالد على هذا الإفلاس أبداً، ولا يقول: يا ليتني سمعت كلام الأطباء عندما قالوا لي: لا تتعب نفسك، لا أمل.
الطبيب يقول له: لا أمل، وهو يقول: الكلمة الأخيرة لله، أنا سأسعى.
ويسعى بجد ونشاط، فكما قلت لكم: بعدما يموت الولد يكون هو قد أفلس، ومع ذلك لا يندم أبداً أنه أنفق كل ما يملك على ولده، برغم أنه قد سمع كلام الأطباء أنه لا فائدة.
بالمقابل انظر إلى حال الولد مع أبيه المريض الذي طالت علته، والولد ينفق على أبيه من مال أبيه وليس من ماله، ويطوف به على الأطباء، فيقابله صاحب له: ماذا فعل أبوك؟ يقول: ربنا يريحه لماذا؟ لماذا قلت هذه الكلمة؟! إذا كانت كلمة بكلمة قل: الله يشفيه، قل: الله يعافيه، قل لصاحبك: ادع لأبي بالشفاء؛ بالعكس إنما قال: الله يريحه، هو يريد أن يقول: الله يريحني منه، لكنه يستحيي أن يقول ما في دخيلة نفسه.
فانظر إلى هذا التباين، ما بين حب الطبع وحب الاختيار! الولد يحب أباه حب اختيار، والوالد يحب ابنه حب طبع؛ لذلك يكون حب الاختيار أعلى في الميزان من حب الطبع؛ لأن معنى الاختيار أنك تتجاوز هواك، يعني: أن هناك مطاوعة بينك وبين هواك؛ لأن هذا حب اختيار.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -يبين لنا التباين ما بين الحقَّين-: (لا يجزي ولدٌ والده) مهما فعل الولد، وتخيل كل شيء يمكن أن تفعله لأجل أبيك، فإنك لا تجزيه أبداً إلا في حالةٍ واحدة، إذا فعلتها وهي أن تجد أباك مملوكاً فتشتريه وتعتقه، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه)، في هذه الحالة الوحيدة التي يستوفي الوالد حقَّه من ولده.
إذاً حب الاختيار أمامه عقبات وهي: وقوف الهوى، والنفس، وقرناء السوء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: (أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي.
قال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك) ليس هذا هو حب الطبع لا، إنما هو حب الاختيار، ولذلك بادر عمر مباشرةً، وأعلن أن حب النبي صلى الله عليه وسلم أولى من حب نفسه.
إذاً معنى الحديث: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عمر! إنك لا تكون صادقاً في حبك لي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو كان فيه تلف نفسك هذا معنى الحديث: لا تصدق في حبي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو أدى اتباعي إلى هلاك نفسك.