للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض المقتضيات الفطرية لدى الآباء للتمييز بين الأبناء في المعاملة والعطاء]

أسوق مثالاً لأبين أن التفضيل بين الأولاد لا يكون ظلماً أحياناً.

سئلت أم: من هو أعز ولدك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يعود.

فالمقتضى لتمييز بعض الأبناء موجود في هذه الأحوال، وهو: البعد، والصغر، والمرض، فلو مرض ولدك الصغير فإن قلبك يتفطر عليه، لكن لو مرض ولدك الكبير، تقول له: تحمل، أنت رجل؛ لأن الولد الصغير لا يدرك معنى الألم فلا يمكنه الإفصاح عما يعتريه، ولا يعرف معنى الصبر، لكن إذا كبر الولد، فقل له: تحمل، (أشد الناس بلاءً الأنبياء) فهو يفهم الكلام فيتأسى، بخلاف الصغير، ولذلك تجد حنانك وحزنك على الصغير أعظم من حزنك على الكبير.

فيوسف عليه السلام كان صغيراً إذ ذاك، وإخوته قالوا: (ونحن عصبة).

أي: كبار وكثر.

وبعض الناس يقول: إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء والصواب أنهم غير أنبياء؛ لأن الأنبياء باتفاق أهل السنة -بل باتفاق علماء الإسلام جميعاً، بل باتفاق المبتدعة منهم- لا يرتكبون الكبائر لا قبل النبوة ولا بعد النبوة أبداً؛ لأنه إذا ارتكب نبيٌ جريمةً نكراء قبل النبوة يعير بها، فصيانةً لجناب النبوة لا يحفظ عليه كبيرة أبداً قبل النبوة فضلاً عن بعد النبوة، وهم أيضاً منزهون عن الصغائر على القول الراجح.

وإخوة يوسف فعلوا فعلين كلاهما كبير، لما قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:٩]، ولما قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:٨] فهم أتوا بأمرين: عقوق، وهمٌّ بالقتل؛ فألقوه في الجب بقصد أن يموت، فكأنهم قتلوه، فإن الرجل لو ذهب لآخر وضربه ضربةً لأجل أن يموت فخر صريعاً فمضى الرجل، ثم أفاق المضروب بعد قليل؛ فإن الضارب يعامل معاملة القاتل في الآخرة؛ لأنه لما ضرب أراد أن يقتل، والنية في هذه المسائل معتبرة.

هل يعقوب عليه السلام لما تزوج بامرأتين لم يكن يعدل بين أولاده حتى كان هو السبب في قول الإخوة: اقتلوا يوسف؟ أنا لا أريد أن أفيض كثيراً في محاسن تعدد الزوجات؛ لأنه من محاسن الشرع، دعك من أهواء الناس، وهذا الكلام قد لا يرضي عامة النساء، لكن ما جاء الدين لإرضاء أهواء الناس، إنما نزل الدين مهيمناً على الكل، أليس الدين قيداً؟ ألسنا أسراء في يد الشريعة؟ بلى.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالمؤمن مسجون بالتكاليف الشرعية: افعل، لا تفعل، ليس هناك حلالٌ مطلق في الدنيا، كل ما يخطر ببالك أن تفعله لا تستطيع أن تفعله؛ لأنك في الدنيا كالمسجون تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أول رؤيا بعض الصحابة -أظنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره- لما رأى نفسه مقيداً في المنام بقيد، فأولَ القيد بأنه الدين، يعني: دينه متين، الدين قيد، لا تستطيع أن تفعل كل الذي تريد دون ضابط، لأن ديننا جاء ليهيمن على الخلق لا ليتنزل على هوى كل إنسان.