للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصتي مع كتاب (صفة صلاة النبي للألباني)]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد طلب مني أن أتحدث عن رحلتي في طلب العلم أو عن مراحل طلبي للعلم، وهذا هو التوصيف الصحيح.

هذا الموضوع يصعب في الحقيقة على نفسي من أن أتكلم فيه؛ لأني لا أرى شيئاً ذا بال يذكر، لكن سأقول طرفاً من كيفية تحصيلي للعلم وكيف كان، لعل الله عز وجل أن ينفع بها.

كان أول ما فتحت عيني على العلوم الشرعية سنة (١٩٧٤م) أو (١٩٧٥) مع مطلع ازدهار الدعوة السلفية في مصر، وقد كنت أصلي في مسجد العين الحياة الذي كان خطيبه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، فكان تجار الكتب يعرضون هناك أصنافاً شتى من الكتب، وبعد أن ننهي الصلاة ننظر في هذه الأرففة، فلفت نظري كتاب اسمه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ الألباني بالحجم الصغير، الطبعة الثانية، فتناولت الكتاب وقرأت في مقدمته شيئاً وأنا واقف، فأعجبني أسلوبه، ونظرت إلى حواشي الكتاب فأحسست بفخامة الكتاب، ولكن لا أفهم شيئاً، فسألت عن سعر الكتاب، فكان وقتها أظن بـ (١٥) قرشاًَ، ولم أكن أقدر على ذلك الثمن آنذاك، فقلت: أؤجله للأسبوع القادم، فدرت أيضاً أبحث، فوجدت (تلخيص صفة صلاة النبي) للشيخ الألباني، فتناولته وكان بقرشين أو ثلاثة تقريباً، فلما قرأت هذا الكتاب وجدته يزلزل ما ورثته من الصلاة عن آبائي، أشياء جديدة جداً ومختلفة، فجعلت أحلم باقتناء الأصل، وأنا ما زلت خائفاً أني إذا رجعت إلى المسجد مرة أخرى ألا أجده، فقد يشتريه أحدهم، فعندما اشتريت الأصل -كما يقال- ألقيت الألواح ولاح لي المصباح ونور الصباح، وقرأت المقدمة التي -أحمد الله عز وجل- أوقفتني على الطريق من البداية.

إن الإنسان الذي يتردد ما بين الأفكار لا يكون منهجه سليماً أبداً، مرة يكون على الفكر الفلاني، فيكتشف أنه أخطأ ثم يحول إلى الفكر الآخر فيكتشف أنه أخطأ مرة أخرى، لكن إذا فتح الله عز وجل عينه على المنهج الصحيح من أول أمره فهذا يكون له فاتحة خير.

فمقدمة الشيخ الألباني على كتاب صفة الصلاة من أمتع ما قرأت في حياتي حتى الآن، لأنها لخصت القسم الثاني من الشهادة (وأشهد أن محمداً رسول الله) أي: لا متبوع بحق سوى النبي عليه الصلاة والسلام.

فالله تبارك وتعالى لا شريك له في العبادة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع، فهذه المقدمة كانت مقدمة نفيسة، بدأت أشعر بها أن علم الحديث هو العلم الذي بدونه تبقى العلوم كلها مغلقة، لا تشعر بطعمها ولا حلاوتها؛ لأن علم الحديث علم خادم، وبقية العلوم مخدومة.

ولك أن تتصور منزلاً فيه أمير، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه كوباً من الشاي! فهو لا يستغني عن الخادم، فبقاء الخادم هو بقاء حياته، كذلك علم الحديث بالنسبة لبقية العلوم الأخرى، علم الحديث يحتاج إليه المتكلم في التوحيد والتفسير والفقه؛ لأن أكثر الأدلة التفصيلية جاءت من السنة، فلو لم يكن الفقيه عالماً بتصحيف الآثار، فمن السهل جداً أن يقصر، بل قد وجدنا هذا في كتب الفقه، وكم من واجب صرفوه إلى مستحب بدليل واهٍ ضعيف أو العكس، ولذلك تجد الفقيه المعظم للدليل العالم بصحيحه من سقيمه؛ تجد لفقهه حلاوة لا تجدها للفقيه الصرف.

وخذ مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، عندما يتحدثون في الفقه تشعر أن الفقه مثل الحكاية، تقرأ ولا تمل، لكن اقرأ بعض كتب المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ممن بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب، كـ علي بن عبد الكافي المعروف بـ تقي الدين السبكي، وقد كان في نظر البلقيني وولي الدين العراقي -ابن الحافظ زين الدين العراقي - قد وصل إلى رتبة الاجتهاد، وقد وقعت محاورة بين ولي الدين العراقي وبين شيخه البلقيني، يقول ولي الدين لشيخه البلقيني: لماذا تقي الدين السبكي إذا أفتى يفتي بخلاف الدليل، مع أنه بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني ولم يجبه، فقال ولي الدين العراقي: أظن ذلك لأجل الوظيفة، فقد كانت هناك مدارس في تلك الفترة، فمدرسة تدرس الفقه الشافعي، ومدرسة تدرس الفقه الحنفي، وأخرى الحنبلي إلخ، فلم يكونوا يسمحون لـ تقي الدين السبكي أن يخالف المذهب الشافعي، ولما فعل ذلك ابن رجب الحنبلي مع نباهته اعتزله الحنابلة؛ لأنه خالف ابن تيمية، فـ ابن رجب أراد أن يقول: إن ابن تيمية مع جلالته ليس نبياً معصوماً، ومن ذلك أنه خالفه في مسألة الطلاق ثلاثاً، فقد كان ابن تيمية يوقعها واحدة وابن رجب يوقعها ثلاثاً كبقية المذاهب.

فكذلك جماهير العوام من الشافعية لا يتحملون مخالفة تقي الدين السبكي للمذهب الشافعي، فـ ولي الدين قال: أرى أن ذلك لأنه كان يشغل منصب قاضي القضاة، وله فضائل على الشافعي.

قال: فتبسم البلقيني.

وكأنه أقره على مثل هذا، فأنت عندما تقرأ لـ تقي الدين السبكي في أي مسألة فقهية تشعر أن أمامك عقبات لابد أن تتجاوزها، ألفاظاً -من صعوبتها- تحتاج أن تفتح القاموس لكي تفهمها، بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما تقرأ له تشعر بالحلاوة، حلاوة الفقه والعرض، وتشعر معه أن المسألة هبة من الله سبحانه وتعالى.

فكانت مقدمة الشيخ الألباني في وجوب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام مع تشديد نقل ما قاله الأئمة المجتهدون في تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه لا ينبغي لأحد أن يوضع في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، وجدد لنا الكلام الذي لم نكن نعرفه عن علماء (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ونحو هذه العبارات.

فعندما قرأت هذه المقدمة وجدت أن علم الحديث ينبغي أن يكون هو أولى العلوم الأكاديمية التي أدرسها، وأقول: (الأكاديمية) حتى لا يُستدرك علي بعلم التوحيد، أقول: أول العلوم الأكاديمية علوم الآلات، طالما دخلنا في الدراسة بعد اعتقادنا أنه لابد من دراسة العلم العيني، الذي لا تصح عبادة المرء إلا به، وإذا كان هناك جهد إضافي فيكون في علم الحديث.