[طاعة المحبوب]
من علامات الحب -وهو فرع أيضاً على الأصل الأصيل الذي بدأنا به- ألا يزاحم أحدٌ محبوبك في قلبك، وأن تنفعل له حتى ولو كان بضد رغبتك، ولذا يكثر عجبي من الذين يظهرون الالتزام فإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
أيها المخالف الذي يظهر عليك سمت الالتزام! ألا تعظم نظر الله إليك حال المخالفة، ثم تدعي أنك لا تستطيع أن تترك هذه العادة السيئة ولا أن تترك معصيتك وتقول: كلما أردت أن أتركها أعجز عن تكرها، فنقول لك: ذلك لفتور المحبة، فإنك إذا كنت تحب الشيء وسيدك يغضب ولا يحب ذلك، فأيهما تقدم -أيها العاقل- إذا كان في يد سيدك حياتك وموتك، وشقاؤك وتعاستك، أيهما تقدم؟ تقدم أمر سيدك أم شهوة نفسك؟ كيف هان عليك أن تعلم أن سيدك ينظر إليك وأنت تعصيه، ثم هو يحلم عنك ويمهلك، فتزداد اغتراراً بالمعصية واجتراراً لها، لا والله ما هذا بالنَّصَف، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:٣٤].
إن من علامات الحب أن تطيع من تحب ولو كنت كارهاً، ولو كان على خلاف هواك، وهذا شأن كل محب صادق لا يمكن أن يعصي محبوبه، ألم تر إلى قول الشاعر: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زورِ ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرورِ فإنه يلتذ بكل ما يرضي المحبوب ولو كان غير مرضي لدى المحب.
وكما قال المتنبي: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم إذا كان قول حاسدي أرضاك مع أنه قد جرحني فليس لجرحي ألم إذا كان يرضيك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
وقال آخر: ولئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك مجرد ما أخطر ببالك حتى ولو فكرت أن تؤذيني، فأنا أشكرك أنني خطرت ببالك! ولو كنت ستلحق بي الأذى، هكذا يقول المحبون بعضهم لبعض.
هذا كله من علامات الحب، فإذا نقلنا ذلك إلى المحبوب الحق وهو الله تبارك وتعالى فلا يحل لنا -أيها الإخوة الكرام- أن نمشي بهذا التفلت ونحن كل يوم نقدم على الله عز وجل.
أحياناً أتعجب -حتى يصيبني الدوار- من الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم، والله هذا شيء عجيب! كلما مر من عمرك عام تحتفل أنك تقترب من مصرعك؟! هل رأيت عاقلاً يفعلها؟!! كلما اقترب من حبل المشنقة يحتفل!! لكن قاتل الله عز وجل الانحلال وقاتل تباع أهل الكفر، فهم الذين نقلوا إلينا ذلك، فالاحتفال بأعياد الميلاد إنما هو شعار الكافرين الذين لا يؤمنون بآخرة ولا بعث، فانظر كيف انتقل ذلك إلينا حتى صار عرفاً بيننا ولا ينكره أحد، بل بعض الذين منَّ الله عليهم بالالتزام في أشياء كثيرة لا يزالون يحتفلون بأعياد الميلاد، ويرددون نفس الأغنيات بنفس اللغة الأجنبية، أهؤلاء محبون لله تعالى حقاً، وكيف يجتمع حبهم المزعوم لله تعالى مع معاصيه وما يغضبه ويأباه؟!! كل يوم يمر فهو صفحة عظيمة تطوى من كتاب نهايته الموت، وكل لحظة تمر تدنيك من مصرعك شبراً فشبراً، فهل عملت لهذا المصرع؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون عاماً، فقال له الفضيل: أنت منذ ستين عاماً وأنت سائر إلى الله، فانزعج الرجل وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وما العمل، وقد فَرَطَ منه تقصير؟ قال: أحسن فيما يأتي يغفر لك ما قد مضى.
فإذاً العبرة بالخواتيم، ولا شك أن معرفة ذلك واستشعاره يبعث على دوام المراقبة ورجاء حسن الخاتمة والخوف من سوئها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة.
فيا أيها العاصي! الذي قطعت عمرك في العصيان، أقبل على الله عز وجل، لن تجد أرحم منه، لا والداً ولا والدةً، إذا قلت له: (وعجلت إليك رب لترضى)، غفر لك وقبلك إنه هو الغفور الودود.