[الحث على سؤال أهل العلم عند الجهل بمسألة ما]
قال زر بن حبيش لـ صفوان يشرح له سبب مجيئه: (إنه حز في صدري شيء) وهذا دليل على أن المسلم إذا حز في صدره شيء في الحكم الشرعي أن يسأل عنه.
قال: (حز في صدري شيء في المسح على الخفين بعد الغائط والبول -وانظر إلى السؤال! وكما قيل: حسن السؤال نصف العلم- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً -لم يقل له: ما رأيك في الموضوع؟ بل نسب الكلام لصاحب الشرع، نريد أن نسمع حكم صاحب الشرع- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: نعم، أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة؛ لكن من بول أو غائط أو نوم) أي: لا ننزع خفافنا إلا من الجنابة، لكن في الغائط والنوم والبول لا ننزع خفافنا.
إذاً: أنت إذا أصابتك جنابة تخلع الخف؛ لأنك ستغتسل، فإذا اغتسلت ابتل الخف، فإذا ابتل الخف فما الحكمة في مسحه إذاً؟ أنت تمسح حتى لا يصل الماء إلى قدميك، وقد وصل، ولا بد من غسل القدمين في حال الغسل؛ إذاً: يلزمك نزع الخف.
لكن إذا تغوط المرء أو تبول أو نام -وكل هذا ينقض الوضوء- فلا يلزمه أن ينزع الخف.
وطالب العلم عندما يجلس إلى من هو أعلم منه فإنه لا يكتفي بسؤال، قال زر:، فقلت له: (هل سمعت في الهوى شيئاً؟) أي من الرسول عليه الصلاة والسلام، (الهوى) أي: الميل، يسأل عن الهوى حتى يجعل ميله وهواه على وفق ما يريد الله ورسوله، لكن انظر إلى الذي يقول لك: الهوى هواي! أرأيت عبداً أضل من هذا؟! كالذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣]، أي: جعل هواه إلهه الذي يعبده.
وهناك من الناس من يسأل عن الهوى حتى يجعله نيله وهواه على وفق ما يريد الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:١١٢]، لا يستقيم كما أمر إلا إذا جعل هواه تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ميل القلب، وهذه من أعلى درجات الإيمان: أن تجعل ميل قلبك لما يحبه الله ورسوله، وإن كانت مصلحة في غير ذلك، وأوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً، فقال له: (إذا أشكل عليك أمران -لا تعرف الصواب من الخطأ- فانظر أقربهما إلى نفسك فخالفه، فإن النفس تحب الهوى) انظر إلى ما تحبه من الأمرين واتركه لماذا؟ لأن النفس تحب الهوى، هذا نوع من أنواع التربية، والإنسان يذل هذه النفس؛ حتى يقيمها على أمر الله تبارك وتعالى.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل حتى تعجز قدماه عن حمل جسمه، فإذا شعر بالإعياء أخذ العصا وضرب بها قدميه، ويقول: (والله أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً، والله لأزاحمنهم على الحوض) وما يستطيع المرء على أمر الله إلا إذا ملك نفسه.
ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه) لأنه إذا ملك نفسه ملك غيره، فإن عجز عن ملك نفسه فهو أعجز عن غيره من باب أولى (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس- ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب).
فهذا التابعي الجليل يسأل عن الهوى: هل سمعت في الهوى شيئاً-؟ قال: نعم.
كنا في سفر فصاح أعرابي -وأنتم تعرفون أن الأعراب فيهم غلظة وجفاء، والأعرابي صوته عالٍ، خليقة؛ لأن الإنسان يتكيف بالبيئة، تجد مثلاً الذي يسكن في البراري -المسافات الواسعة جداً- فيحتاج أن ينادي بصوت عالٍ فيكون صوته جهورياً، أما أهل الحضر فبين الجار وجاره نصف طوبة، فتجدهم يتهامسون همساً.
لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد عليهم في ذلك، مع أن رفع الصوت على الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عنه، وجعل غض الصوت عنه من علامات الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:٣]، وذم أقواماً آخرين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:٤] فقد كانوا يصرخون من وراء الحجرات: يا محمد! اخرج لنا.
فذم أقواماً برفع الصوت، ومدح أقواماً بخفض الصوت، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد على مثل هذه الأمور التي قد تبدو جبلية، كما في حديث صفوان بن المعطل السلمي لما شكته امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس.
وكان صفوان جالساً، فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي، أما قولها: (فيضربني إذا صليت) فإنها تصلي بعد الفاتحة بسورتين، وقد نهيتها.
فقال: أطيعي زوجك، وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فأنا رجل شاب، وهي تتعمد الصوم -أي بدون إذني، فكان يقع عليها فيفسد عليها صومها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوم امرأةٌ تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، غير رمضان.
وأما قولها: (ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس) -وهذا محل الشاهد- قال: إنا أهل بيتٍ عرف عنا ذلك، أي: أن نومه ثقيل، وهذا معروف عن أسلافه، وهو شيء جبلي، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج، فماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إذا استيقظت فصل) طالما أنه عمل بالأسباب الشرعية حتى يستيقظ في الفجر، فلا يسهر أحد حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية أمام مسلسل وبعد ذلك قبل الفجر بساعة ينام، فكيف سيستيقظ؟ وأدهى من هذا أنه يصحو الساعة السابعة أو الساعة الثامنة ولا يريد أن يستيقظ! فالصحابي اتخذ الأسباب الشرعية، ونام مبكراً من بعد العشاء، ومع ذلك نام حتى ذهب وقت الفجر، قال: (إذا استيقظت فصل) هذه المسائل الجبلية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يشدد فيها؛ ابتغاء رفع الحرج.