[خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامهم له]
خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإعظامهم له، وإشفاقهم أن يصاب بمكروه؛ لأن أبا هريرة قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر) وذكر أبا بكر وعمر بالذات تنويهاً لشأنهما قال: (فقام عنا النبي صلى الله عليه وسلم فاقتُطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، وفزعنا فكنت أول من فزع) وإذا تأملت حياة هؤلاء الصحابة وجدتهم يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام غاية الإعظام، ولا يقدمون عليه أحداً كائناً من كان، حتى إن أبا سفيان قال لبعض المسلمين -وقد أسره في غزوه أحد-: (أتحب أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ قال: والله ما أحب أني بين أهلي ومحمداً صلى الله عليه وسلم في مكانه يصاب بشوكة)، فضلاً عن أن يأتي إلى هنا.
فكانوا يعظمونه غاية التعظيم، حتى إن عمرو بن العاص لما أدركه الموت وحكى لابنه عبد الله مراحله في الإيمان والكفر قال من جملة ما قال وهو يحكي عن حال كفره: (ولم يك شيء أحب إليَّ من أن أكون استمكنت من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلته، وإنني إن قتلته دخلت النار) فلما آمن قال: (ولو طلب مني أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فإنني ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له) أي: من الحياء وشدة الإجلال ما كان يطيق أن يطيل النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه.
فهذه كانت سمة عامة، وهذه السمة هي أهم ما يفتقده المسلمون الآن، فمشكلتهم الآن أنهم لا يجلون النبي عليه الصلاة والسلام الجلالة الواجبة، ولا يعظمونه الإعظام الواجب، إنما يردون أحاديثه، ولا يتأدبون في الخطاب معه.
والله إن بعض الناس قال اليوم مقالة لو قالها في زمان الصحابة لقتل ردة، لا أقول: يقتل حداً، بل ردة، وهو الذي يسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) وهذا حديث رواه مسلم قال أبو ذر: يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؛ لماذا الكلب الأسود بالذات؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان) من الواضح هنا أن النبي عليه الصلاة والسلام فرق ولم يسو بين الكلاب كلها، فيأتي هذا الراد غير المتأدب فيقول: (الكلاب كلها سواء لا فرق بين أصفر ولا أسود ولا أحمر)، والنبي عليه الصلاة والسلام يفرق، وقد سأله أبو ذر: ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟! فقال له إجابة واضحة في التفرقة: (الكلب الأسود شيطان)، ويأتيك هذا فيقول: بل الكلاب كلها سواء! أهذا من إعظام قول النبي عليه الصلاة والسلام؟ ويسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، وهذا حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، والحبة السوداء هي حبة البركة، فيأتي ويقول: كيف يقال: إن الحبة السوداء شفاء من كل داء؟ هل الرجل الذي عنده الكلى يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي عنده برودة يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي يعاني من القولون يأخذ الحبة السوداء؟ ويعترض على الحديث.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (شفاء من كل داء) وهو يقول: ليست شفاء من كل داء!! وبلاؤنا فيه أنه له عمامة كبيرة، ورجل له قدم، هذه هي مصيبتنا، فما يأتيك من عدوك لا يضيرك، إنما ما يأتيك من أهل جلدتك ومن يتكلمون بلغتك هذه هي المصيبة.
ولو كان سهماً واحداً لتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث هذه هي المشكلة أنه لا يعظم قول النبي عليه الصلاة والسلام، ويزعم أن الأحاديث على غير ظاهرها، وأن الذين أخذوا بظاهرها جهلة، ولم يعلم أن الذين أخذوا بظاهرها هم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين.
هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فكان شدة الحب الذي كان في قلوبهم للنبي عليه الصلاة والسلام يدفعهم على اتباعه في كل شيء، حتى وصل الأمر بـ عبد الله بن عمر أنه كان يمشي مع أصحابه من التابعين يوماً، فرأى قبواً فدخل فيه، فقال التابعون لـ نافع وكان مولى لـ ابن عمر: أهو داخل يستريح؟ قال لا: وإنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان فهو يحب أن يتبول فيه.
ولما قال عبد الله بن عمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال ولده: (والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً)، فرماه عبد الله بن عمر بحصيات كن معه ومنعه من الدخول عليه، فمات ابن عمر ولم يدخل ولده عليه؛ لأنه عارض الحديث برأيه، وإن كان ولده وحاشاه أن يعارض الحديث جحوداً وضرباً في نحر النص، لكنه تأول الحديث، فقال: إن كانت المرأة تدعي أو تريد أن تخرج إلى المسجد لتقضي أشياء أخرى تحت ستار الذهاب إليه لنمنعهن، فاستعظم عبد الله بن عمر أن يرد ولده كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فحصبه ومنعه من الدخول عليه فشفقتهم وحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام كان أعظم ما يميزهم.