ضرب المثل بالرجل الأبكم الذي هو كَلّ على مولاه
ثم ضرب مثلاً آخر عجيباً، أشد وضوحاً من الأول فقال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [النحل:٧٦] انظر إلى وضوح هذا المثل أكثر من الأول! {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:٧٦] أربعة أوصاف لهذا العبد المخذول: أبكم لا يتكلم، والكلام نعمة؛ ولذلك شنّ علماء المسلمين الغارة على الجهمية حين زعموا أن الله لا يتكلم، فقال مفتريهم عند تفسير قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤]، قال: إن الله لا يتكلم.
صفة الكلام صفة كمال، وعدمها صفة نقص عند المخلوقين، فكيفَ بالخالق عز وجل؟! فقال أهل السنة: هو متكلمٌ كان ولم يزل متكلماً؛ لأن عدم الكلام نقص.
فهذا رجلٌ أبكم، عاجز لا يقدر على شيءٍ، ومن تمام عجزه أنه كلٌّ على مولاه.
نحن نعبد الله لأسباب كثيرة: منها أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، ومنها: أن يوصل النفع إلي، ويدفع الضر عني، فأنا إذا احتجت أقول: يا رب.
إذاً: أنا الذي أحتاج، وإلهي هو الذي يمدني.
تصور العكس: أن إلهك الذي تعبده يحتاج إليك! هذا الرجل كلٌٌّ على مولاه، المفروض أن مولاه اشتراه لينتفع به، لكن مولاه هو الذي يخدمه، وهو الذي يشتغل له، فهذا العبد كلٌّ على مولاه.
ولو قال له مولاه: مللت منك وليس منك أي فائدة: اذهب إلى الجهة الفلانية، ائتني بفلان، أو احضر لي كذا وكذا: (أينما يوجهه لا يأت بخير) إذا بعثه في معروف يأتي بمصيبة، لا ينطق، ولا يقدر على شيء، وأنا الذي أنفق عليه، فإذا أردت أن أستخدمه مرة جاءني بمصيبة! الطرف الأول من المثل.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:٧٦]، أجيبوني أيها العقلاء! هل يستوون؟ مثل في غاية الوضوح.
وهذان المثلان ضربهما الله عز وجل لنفسه مع الآلهة من دونه.
هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟ لا يأمرُ إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، ولا يأمرُ إلا إذا كان متكلماً، إذاً يأمر هي ضد (أبكم لا يقدر على شيء) أبكم: يعني لا يتكلم، في مقابله يأمر، لأنه لا يأمر إلا إذا كان متكلماً، ثم لن يأمر إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، فهذا في مقابل: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأن ذاك العبد الأبكم جاهل لا يعرف الخير من الضر.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، فهذا في مقابل: {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}.
لكن هذه الكلمة المجملة {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:٧٦] كانت كلها صفات في مقابل صفات النقص الأولى.