للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهر إبراهيم بالدعوة إلى التوحيد]

بعد هذا الاعتقاد بدأ يجهر بما يعتقد، ولا يجهر المرء بما يعتقد إلا إذا كان متحققاً مما يدعو إليه ويعتقده.

أهل الكهف، الشباب الصغير في أمة منحرفة لما لاذوا بالكهف، قال الله عز وجل فيهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:١٤]، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)؛ لأنه لا يستطيع أن يقول إلا إذا قام، ولا يقوم ويصلب عوده إلا إذا اعتقد ما يدعو إليه، فكلمة (إذ قاموا) ليس معناها: قاموا من النوم، أو كمن كان مضطجعاً فقام بل معناها: صلب عودهم، هنا القيام بمعناه العام التام، (إذ قاموا) انتصبت قامتهم، فلما وجدوا القوة من أنفسهم قالوا -وواجهوا قومهم-: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:١٤]، أي: لو ادعينا آلهةً مع الله عز وجل لقد قلنا شططاً من القول وانحرافاً.

فإبراهيم عليه السلام لما وصل إلى يقين أنه لا يوجد في الكون -مما رأى- مثالٌ يعلق عليه معرفة الله عز وجل وأسماءه الحسنى، تبرأ من كل ذلك وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٩]، وكلام إبراهيم عليه السلام هنا كلام قرآني، وطريقة قرآنية معروفة في القرآن، أنه يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ} [الأنعام:٧٩] (فطر) يعني: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٩]، أي: إني وجهت وجهي حنيفاً للذي فطر السموات والأرض.

وإنما قال هذا الكلام وحاج قومه به، لأنه لما جهر بتوحيد الله بدءوا يحاجونه، فاحتج عليهم بهذه الحجة؛ لأن المشركين جميعاً يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجحدون أن الله عز وجل هو الذي خلق ورزق وأحيا ويميت، لا يخالفون في ذلك كله، ما علمنا من المشركين من يقول: إن آلهةً شاركت الله في خلق السموات والأرض، بل كانوا يقرون بذلك.

فالمناسب في حصر الحجة: أن تأخذ من إقرارهم وسيلةً ودليلاً لإقامة الحجة على ما ينكرونه، وهذا لا يستطيع أن يقيمه إلا الراسخون في العلم، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:٦١] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:٦٣] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:٢٥] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:٨٧] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:٨٤] * {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:٨٥] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:٣١].

أليس هذا إقراراً؟ كلهم يقولون: الله، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:٥٩]، ثم عدَّد الله عز وجل آلاءه في الكون، فاستدل بما يقرون به على ما نفوه من توحيده وعبادته.

الذي تفرد بالخلق وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أهل أن يتفرد بالعبادة، لماذا تستغربون؟! تفرد بكل شيء، فلماذا تشركون معه آلهة في العبادة؟ إذا كان هؤلاء الآلهة خلقوا مع الله عز وجل خلقاً، فأرونا ما خلقوا، لكنهم ما خلقوا.

إبراهيم عليه السلام احتج عليهم بما يقرون به في أنفسهم، ولذلك جهر به: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:٧٩] وهذا متعلق بتوحيد الربوبية: (فطر) أي: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٩].

نعوذ بالله تبارك وتعالى أن نشرك به شيئاً نعلمه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.