للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا مداهنة في العقيدة]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:٤]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

هذه القصة -قصة الغرانيق- وإن كانت غير معروفة للسواد الأعظم، لكنها كانت فرصة حتى نجلي هذا البحث الذي يحتاج إلى نوع تأمل وتدبر وبحث في الكتب؛ لنعلم الوجه الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما فعل أقر التوحيد في نفوس أتباعه.

لا يمكن أن نداهن هؤلاء المشركين على حساب العقيدة، فإن المواقف التي وادع المشركين فيها وسالمهم هي بعيدة تماماً عن حيز العقيدة، هي فيما يتعلق بإرساء دعائم بعض الأحكام الشرعية وليس التوحيد، ليس في التوحيد مداهنة.

ولقد كان من اليوم الأول يبين لهؤلاء المشركين أن هذه الآلهة لا تغني شيئاً، ويجهر بها حتى أنه لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) أبوا أن يقولوها مجرد قولٍ، حتى عمه لما قال له: (قلها أحاج بها بين يدي الله عنك) (قلها أحاج لك بها) فانبرى أبو جهل وقال: يا أبا طالب! أترغب عن ملة آبائك؟ قال: لا أرغب عن ملة آبائي، ومات بغير أن يقولها.

كان عليه الصلاة والسلام أثبت من الجبال الرواسي في تبليغ هذه الكلمة مع تبيين حدودها.

إن المشركين الأول كانوا يفهمون هذه الكلمة أفضل من بعض علماء المسلمين الآن، ولا أقول السواد الأعظم من المسلمين.

لو أن المسلمين الآن فهموا لا إله إلا الله كما فهمها المشركون الأوائل؛ لما وجدت هذه الوثنية عندهم، وليس بالضرورة أن نسوي بين المسلمين وبين المشركين نعوذ بالله من ذلك، إنما نتكلم في فهم الكلمة.

لقد حارب العرب حروباً شديدة ضد المسلمين حتى لا يقولوا هذه الكلمة، ولو مجرد قول يخرج من أفواههم أبداً؛ لأنهم كانوا يفهمونها حق الفهم.

معنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق سوى الله، ولا مشرع بحق سوى الله، و {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٤٠]، فمعنى الاعتراف بهذه الكلمة: خلع الأنداد، خلع السلطان، خلع الصولجان، خلع هذا المنصب الرفيع الذي كان يتمتع به سادة قريش من أن يحكموا في دماء الناس بغير معقب لهم يعني تسلب كل السلطات من أيديهم إذا قالوا: لا إله إلا الله؛ لذلك كانوا يأبون أشد الإباء أن يقولوها أويعترفوا بها هذا معنى (لا إله إلا الله): أن الله تبارك وتعالى إن حكم فيك بحكم أن تنصاع له، ولا يجوز لك أن تقدم بين يدي الله ورسوله، فهذا كان واضحاً جداً من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.

ثم إنه قد ورد في بعض هذه الروايات الباطلة أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى في قلبه، وهذا تفسير آخر لمعنى (إذا تمنى)، قلنا: إن التفسير الأول -وهو المعتمد- (إذا تمنى): أي إذا تلا وقرأ، وهناك تفسير آخر (إذا تمنى): أي من الأمنيات التي تتردد في الصدر.

فبعض هذه الروايات تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام تمنى أن لا يوحى إليه شيء في سب الأصنام حتى يستميل قلوب المشركين وهذا كفر أيضاً: أن تتمنى أن الله تبارك وتعالى لا ينزل قرآناً يسب فيه الأصنام، هذا ميل، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٦]، لو خطر بباله أن يتقول علينا وأن يفتري علينا بعض الآيات {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٥ - ٤٦] أي: لأهلكناه {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٧]، لا يمكن أن يتقول، حاشا لله أن يتقول من عنده، أو أن يتمنى ألا ينزل الله تبارك وتعالى آيات تندد بالمشركين وبآلهتهم هذا كله ورد في الروايات الباطلة.

أهناك مسلم عنده مثل هذه المقدمات الأساسية الضرورية، يمكن أن يقول: إن هذه القصة صحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد المشركين وأثنى على أصنامهم لأجل أن يدعوهم، وأنه سلك هذا المسلك لمصلحة الدعوة؟! هذا لا يمكن أن يقوله رجل عنده هذه المقدمات أبداً.