للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله: (وأنزلت عليك كتاباً)

إذا كان الله سبحانه وتعالى وضعك في هذا البلاء وهذه المعركة، فقد جعل لك سلاحاً فقال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، هو هذا سلاحه: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً) (، فهو منهج حياة، وما معنى قوله: (لا يغسله الماء)؟ فلو كتب القرآن وغسل بماء فإن الحبر يذهب، فما معنى (لا يغسله الماء؟) إن إزالة النجاسات تكون بالماء خصوصاً دون سائر المائعات شرعاً وعرفاً.

فلو وقعت النجاسة في ثوب وتريد أن تزيلها، فلو غسلتها بحليب أو بزيت أو بسمن فإنها لا تذهب، فالنجاسة لا تذهب إلا بالماء شرعاً وعرفاً.

وكذلك القرآن، فمعنى: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، أي: مثلما أن الماء يغسل النجاسات فالقرآن كذلك، لكن النجاسة التي يغسلها القرآن نجاسة الشرك ونجاسة الذنب، وكلمة (لا يغسله الماء) أي: لا يستطيع أحد أن يزيد فيه حرفاً ولا كلمة، ولو فعل ذلك فسترى آلاف الصبية من سائر الدنيا يردون عليه.

يذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان: أن رجلاً نصرانياً ورد على أمير المؤمنين المأمون، فلما علم أنه نصراني دعاه إلى الإسلام، فقال له: أسلم وسأعطيك كذا وكذا فقال: هو ديني ودين آبائي، لا أتركه أبداً.

وانفض المجلس، فلما كانت السنة التي بعدها جاء هذا الرجل مسلماً فقيهاً، ودخل وعليه ملابس العلماء، فلما رآه المأمون شبه عليه، فقال: ألست فلاناً؟! قال: بلى.

فقال له: ما خبرك؟ قال: بعدما فارقت مجلسك عمدت إلى التوراة وكتبت ثلاث نسخ فأخرت وقدمت، وزدت فيها وأنقصت، وأعطيتها للأحبار فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ بخط جميل، وزدت فيه وأنقصت، وأعطيتها للرهبان، فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، قال: وكتبت ثلاث نسخ من المصحف -القرآن- وزدت فيه وأنقصت فردوه علي؛ فعلمت أن هذا الدين حق، فأسلمت.

فلا يستطيع أحد أن يغير فيه ولو حرفاً واحداً، وهذا مسيلمة الكذاب -حتى كلمة (الكذاب) صارت مرتبطة باسمه دائماً، لما أراد أن يؤلف قرآناً ضحك منه الناس، ويقال: أن عنده سورة الضفدعة، والتي قال فيها: (نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون) انظر إلى هذا الكلام! وعلى شبكة الإنترنت تجد الكثير من هذا، فهل يظن هؤلاء الأوغاد أنهم يستطيعون أن يمسوا جناب القرآن؟! خابوا وخسروا فربنا سبحانه وتعالى يقول:: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:٤١]، (عزيز) أي: منيع، والإنسان العزيز هو الذي لا يستطيع أن يقرب منه؛ لأنه عزيز، كما قال قريط بن أنيف أبياته في قبيلة مازن، وأنهم قوم لا يستطيع أحد قط أن يعتدي على رجل ينتسب إليهم أبداً، فهذا الرجل كان معه جملان أو ثلاثة، فمر شخص قاطع طريق فأخذها وذهب، فحزن لهذا جداً، فذهب يستنفر جماعته وقبيلته فلم يقم معه أحد، فكلهم جبناء؛ فأنشد أبياتاً في غاية الروعة، وهذه الأبيات هي التي افتتح بها أبو تمام ديوان الحماسة، يقول: لَوْ كُنْتِ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا أي: لا يهربون، بل يفرحون باللقاء.

لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لا يطلبون دليلاً على دعواه.

ولَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا إذاً: قبيلة مازن متصفة بالعزة، ولا أحد يستطيع أنه يصل إليها هذا هو معنى العزة.

فالقرآن منيع {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:٤١]، بل بلغ من عزة هذا الكتاب أن يفارق صدر من أهمله، فالذي يتركه ولا يقرؤه لا يظل في صدره أبداً؛ لأنه عزيز.

فمثلاً: شخص يزورك وأنت تقطب في وجه، وتؤخر عنه الغداء، وتغضب عليه.

فلا يمكن -إن كان عزيزاً- أن يزورك مرة أخرى، بل لو أحس أن شيئاً من الإهمال -ولو كان يسيراً- يصدر منك، فلن يدخل بيتك أبداً، وأي إنسان عزيز فإن هذا هو تصرفه.

والقرآن هكذا، إذا ما قمت وقعدت، وسهرت، وسألت الناس: كيف أحفظ القرآن وأحافظ عليه؟ فإنه يتركك ويذهب؛ لأنه عزيز الجانب.

ولقد جعل الله عز وجل القرآن مهيمناً، كما قال سفيان بن عيينة: (عهد الله عز وجل إلى اليهود بحفظ التوراة فحرفوها، وعهد للنصارى بحفظ الإنجيل فحرفوه، فلم يعهد بالقرآن للمسلمين، إنما تولى تبارك وتعالى حفظه بنفسه).

فالسلاح الشديد القوي، النفيس الماضي في معركتك مع كل الفئات هو القرآن.