[حصول الأجر بانعقاد النية ولو لم يصاحبها عمل]
ويرد هنا سؤال وهو: كيف نوفق بين هذا الحديث، وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي الذي رواه البخاري من حديث ابن عباس: (إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشراً، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها سيئة واحدة)، فالرجل الرابع لم يؤته الله عز وجل مالاً ولا علماً، لكنه تمنى أن يكون بمنزلة الثالث فهما في الوزر سواء برغم أنه لم يعمل شيئاً، مجرد لكنه هَمَّ ولم يفعل، وتمنى أن يكون له مثل مال هذا الرجل فهما في الوزر سواء، إذاً كيف يستقيم هذا مع قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة له) كيف هذا؟ هنا مسألة مهمة جداً وهي التي تخرجنا من هذا الإشكال وهي: أن عقد القلب عمل، فالبعض يتصور أن الفعل لا يكون إلا بالجوارح كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به).
فدل على أن العمل يكون باللسان أو بالجوارح، ولذلك يغفر الله تبارك وتعالى للعبد الهواجس التي تدور في صدره، كما في صحيح البخاري ومسلم أو في صحيح مسلم (أنهم قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يدور في صدره الكلمة لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتلفظ بها) أي: أشياء تتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وفي الصحيحين: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق! فمن خلق الله؟!) أي: خلق الله كذا كذا وخلق السماوات وخلق الأرض وخلق الإنسان فيلقي الشيطان اللعين في نفوسهم -بعد هذا- فمن خلق الله؟! فبعض الناس قد يتردد في صدره أشياء لو تلفظ بها لأن يخر من السماء على أم رأسه أهون عليه من أن يتكلم بها، فقالوا هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أوقد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان) أي أن هذا يدل على الإيمان؛ لأن الذي حجزك أن تتلفظ بهذا اللفظ إنما هو الإيمان، وفي بعض طرق هذا الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) فأنت لم تتكلم به إنما رد كيده إلى الوسوسة.
فمثل هذه الهواجس التي قد تتوارد في صدر العبد بقتل إنسان أو بفعل فاحشة أو نحو ذلك -مجرد أنها تدور فقط في الصدر- من رحمة الله تبارك وتعالى أنه تجاوز لهذه الأمة عنها، فلا يؤاخذ العبد بها إلا إذا تكلم بها أو فعل إما بلسان أو بجارحة.
فبعض الناس يتصور أن العمل لا يكون إلا باللسان أو بالجوارح، ونسي أن عقد القلب عمل، بمعنى أنه إذا انعقد القلب على شيء صار كالعمل.
فأنتم ترون الكفر محله القلب، هل العبد لا يؤاخذ على الكفر؟ إنه لم يتكلم به ولم يفعل شيئاً بمقتضى هذا الكفر لكن انعقد قلبه عليه، فهل يقال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به، المقصود بالعمل يعني عمل الجوارح؟ لا.
فليس هذا هو المقصود.
وفي هذا الحديث قوله: (ما لم تعمل به) دخل فيه عقد القلب؛ لأن الرياء والسمعة والعجب وهذه الصفات محلها القلب وقد لا يظهر مقتضاها على الجوارح أو اللسان.
لذلك لا نرى تعارضاً لهذا التفسير ما بين قوله: (فهما في الوزر سواء) في هذا الحديث ولا بين: (وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة) لأن هذا الحديث (ومن هم بسيئة فلم يعملها) دل على أنه يستطيع أن يعملها، والعبد قد يترك السيئة إما لخشية الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا صريحاً في بعض طرق الحديث عند أحمد قال: (وإذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإنه تركها من أجلي) فدل على أنه تمكن من فعل السيئة ولكن تذكر الله تبارك وتعالى فخشيه ونزع عنها.
كقصة أصحاب الغار والرجل الذي قعد من المرأة مقعد الرجل من زوجته، وهمَّ بها، لكنها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وهو قادر على أن يفعل ذلك، فهذا تكتب له حسنة كاملة.
فأنت تلاحظ هنا: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة) رأيت المقارنة بين الفعلين: هذا همَّ بسيئة وذاك همَّ بحسنة، فهذا أخذ حسنة كاملة، وذاك أخذ حسنة كاملة، لأن الأول: الدافع له حسن، هم بحسنة، فالدافع الذي دفعه محمود فيجازى بجنس المحمود وإن لم يفعله، والثاني: الدافع الذي دفعه وهو دافع السيئة دافع شيطاني، لكن المانع الذي منعه مانع محمود متعلق بالخشية؛ لذلك قال الله عز وجل: (فاكتبوها له حسنة كاملة)، هذا الوجه الأول في ترك السيئة.
الوجه الثاني: لو أنه ترك السيئة؛ لأنه لم يقدر عليها، فهذا لا يكتب له شيء، ولا يكتب عليه شيء.
وبذلك نقول: الذي يدع السيئة لله تبارك وتعالى هذا يأخذ حسنة كاملة، كالذي يهم بالحسنة ولا يفعلها، فإن لم يفعلها لأنه لم يمكن من فعلها؛ فلا يكتب له شيء ولا يكتب عليه شيء؛ لأن الله تباك وتعالى لا يجازي العبد إلا بعد اقترافه السيئة.
وانظر إلى البديع في قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى:٤٠] جزاء سيئة سيئة، مع أنه قد يتبادر إلى الذهن أن جزاء السيئة عقوبة، لكن الجزاء يكون من جنس العمل، جزاء سيئة سيئة، أي: إذا وقعت منه السيئة فجزاؤه سيئة السيئة التي اقترفها.
أما الذي تمنى في حديث أبي كبشة الأنماري: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي الله تبارك وتعالى فيه، ولا يؤدي الحق الذي عليه) ورجلٌ رابع لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فتمنى أن يكون له مثل هذا الذي يخبط فهما في الوزر سواء؛ لأن قلبه انعقد، والإرادة الجازمة إذا صادفت انعقاد القلب صارت كالعمل الفعلي، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هما في الوزر سواء) كما قال في سابقيه: (فهما في الأجر سواء)، وهذا من سماحة الشريعة.
ففي أحاديث كثيرة يحصل العبد بنيته مثل ما يحصله صاحب العلم أو صاحب المال، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له من العمل ما كان يعمله مقيماً صحيحاً) وهذا من أجمل الأحاديث ومن أكثرها بشرى.
فلو كنت مثلاً: تقوم الليل أو تصوم التطوع فمرضت ولم تستطع أن تفعل هذه الطاعات أو تصل رحمك أو تمشي في فعل الخيرات كل طاعة كنت تفعلها وأنت صحيح وأنت في الحضر فعرض لك عارض إما مرض أو سفر يعطيك الله تبارك وتعالى من الأجر كما لو كنت تفعله.
إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، وهذا من تمام رحمة الله تبارك وتعالى لهذه الأمة ومضاعفة الثواب لها، برغم أنها لم تعمل، لكن هذا الحديث منوط بالذي يعمل، فلو أن رجلاً لم يكن من دأبه الحرص على هذه الطاعات ومرض، لا يكتب له أجر الذي كان يقوم ويصوم ثم يمرض؛ لأن الأول متكاسل فلا يؤجر في حال العجز عن كسله في حال القدرة، بخلاف الذي منعه مرض، وكان في حال القدرة يفعل، ففي حال العجز الله تبارك وتعالى أكرم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن) قالها لما أراد المشركون أن يقطعوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قتلوه في وقعة القراء المشهورة.
فـ عاصم لما قالوا له: انزل على العهد والميثاق؛ قال: إنه لا ذمة لكافر، وأبى أن يسلم لهم، وأبى أن يضع يده في يد مشرك فقتلوه، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه ويأخذوه كبرهان أنهم ثأروا؛ لأن هذه الواقعة كانت بعد موقعة بدر، وقد قتل صناديد المشركين ورءوسهم، فأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري برهاناً على الثأر والانتقام، فلما أبى أن يضع يده في أيديهم وقتلوه أرادوا أن يفصلوا رأسه عن بدنه، فأرسل الله عز وجل عليه الدبر -الذي هو النحل- فقالوا: نأتي بالليل؛ لأنه بالليل ينصرف النحل إلى بيوته، فقال بعض الذين رأوا عاصم بن ثابت: فلقد رأيت جثته ترتفع بين السماء والأرض، فعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا فقال: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن)؛ لأن عاصم بن ثابت الأنصاري أبى أن يضع يده في يد مشرك، وهو حي.
فالله تبارك وتعالى لم يمكن المشركين أن يفعلوا به وهو ميت ما أبى أن يفعلوه معه وهو حي إكراماً له.
فالله تبارك وتعالى إكراماً منه ولطفاً يعطي العبد وهو مريض أو مسافر ما كان يداوم عليه وهو صحيح في الحضر.
وهناك عشرات الأحاديث التي تدل على أن المرء بالنية يستطيع أن يحصِّل الأجر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا) برغم أن الغازي المجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى الذي يرى بارقة السيوف على رأسه لا يستوي مع القاعد، لكن القاعد حصَّل نفس الأجر، لماذا؟ لأن هذا الذي تخلف عن الغزو يقيناً له عذر، لعله من أولي الضرر مثلاً، فالذي حبسه هو العذر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً -قال هذا لأصحابه وهم يغزون في سبيل الله- إلا كان أقوام في المدينة يأخذون مثل أجوركم، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر).
فهذا بنيته وبتطلعه إلى فعل هذا الخير يأخذ مثل أجر من فعله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أبي كبشة الأنماري عن هؤلاء الأربعة على الاثنين الأولين: (فهما في الأجر سواء) وعلى الاثنين الآخرين: (فهما في الوزر سواء) كلمه سواء: هذه تدل على المساواة، والفارق بين هذين الاثنين وبين الآخرين هو العلم.