[أيها الداعية لا تنزل إلى مستوى من هو دونك]
لو تسافه عليك رجل فاصبر، وإياك أن تنتصر لنفسك فتذم، حتى ولو كان الحق لك، مثلاً: لو كنت ماشياً في الشارع فلقيت طفلاً صغيراً فقال لك: يا سني! وقذفك بحجر، فجريت وراءه -الولد هو المخطئ، وأنت جريت وراءه لتأدبه- من سيخطئ الناس؟ سيخطئونك أنت على الرغم من أنك مظلوم والحق معك، لماذا؟ لأنهم لم ينزلوا عقله على عقلك، إنما عاملوك بقدرك وعاملوا الولد بقدره، يقولون لك: هذا طفل لا يؤاخذ على كلامه، يعني أنزلوك على عقلك، ولو ساووا عقلك على عقل الصبي لكان هذا ذماً في حقك.
إذاً: أنت رجل عالم، وهذا رجل سفيه وجاهل وتحامق عليك وتسافه أتعامله بعقله؟ لا.
لأن الناس وزنوك بعقلك وعلمك ووزنوه بجهله وسفاهته، إذاً: عليك تقدير نفسك وعلمك وعقلك، ولا تنزل إلى مستوى من هو دونك، ذكر الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء في ترجمة وكيع بن الجراح رحمه الله قال: سب رجلٌ وكيعاً فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج على سابه فقال له: زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت علي، ولو أني أطعت ربي لعصمني منك، أراد أن يقول له هذا المعنى، فكأنه يقول: أنا المخطئ، ولذلك عفر وجهه بالتراب وخرج ليقول: سبني مرةً فلولا هذا الذنب الذي صرت أسيراً له لما تعرضت إلى هذا السب.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها فترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها إذاً: أخطر شيء يهدد الإنسان هو الذنب، ووكيع تصرف بعلمه، ورجع إلى نفسه فذمها.
وأيضاً: ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة وكيع -ووكيع هو الإمام الضخم العلم الجبل، شيخ الإمام أحمد رحمه الله- قال: سب رجلٌ وكيعاً فقيل له: ألا ترد عليه؟ فقال وكيع: ولماذا تعلمنا العلم إذاً؟! يعني: هذا رجل جاهل أنا متفضلٌ لتعليمه، ولذلك لا يصح أن يعاقر الطبيب الداء الذي يداوي منه.
فقبيح مِن مَن تفضل بالوعظ أن يجعل الدين غرضاً لنيل مآربه، وقبيح من مَن يتظاهر بالعفة أن يذل نفسه على أبواب السلاطين والأغنياء، فيجعل الدين مطية للحصول على الدنيا، قال بعض السلف: مثل الذي يحصل الدنيا بدينه كمثل رجلٍ رأى وسخاً في أسفل نعله فمسحه بخده، وكان يجدر به أن يشرف هذا الخد ولا يهينه.
فالعلماء كانوا أعزة، فهذا عفان بن مسلم شيخ الإمام أحمد رحمة الله عليهم جميعاً استدعاه الخليفة ليسأله عن مسألة خلق القرآن -التي تعرفونها- هل هو مخلوق أم لا؟ قال له: ولماذا تسألني؟ قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك وحدك! لماذا؟ لأن عفان بن مسلم شامة العلماء في بلده فقال: نسأل هذا العالم الكبير، وقال: إنك إذا أجبت وقلت: إنه غير مخلوق سنقطع راتبك من بيت المال، فقال: وكيف يجوز لي أن أجيب بغير ما أعتقد؟! قال: إن أجبت بما تعتقد قطعنا عنك راتبك، فهل القرآن مخلوق أم لا؟ قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، قال: إذاً سنقطع عنك راتبك! فقام عفان من بين يديه وهو يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢]، وكان عفان بن مسلم يعول أربعين إنساناً في داره، من سينفق عليهم؟ كان متزوجاً بأربع، ولديه ستة وثلاثون ولداً، فكان الصف الأول في المسجد لأولاده، هذا هو العلم! فلما دخل الدار قالوا له: ماذا عملت؟ فقال لهم: أمروني أن أقول بخلق القرآن وإلا فسيقطعون عني الألف درهم التي كانوا يعطونني إياها من بيت المال، فجعلوا يلومونه ويقولون: من أين سنأكل، من أين سنشرب؟ ومن هذا الكلام الذي يقال في هذه المناسبات، في الليل أو في العصر جاء الإمامان الكبيران -ومن يقرأ هذه الحكايات يحس بالغربة- أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وكانا من تلاميذ عفان بن مسلم، وجاءا من أجل أن يطمئنا ما الذي قاله عفان، فلما دخلا سألاه عما قال: فقال: قلت لهم: القرآن كلام الله غير مخلوق فمنعوا عني راتبي: فقلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:٢٢]، قال: فرأيت وجه أحمد يتهلل فرحاً؛ لأنه ضحى بالمال من أجل دينه ومبدئه، نعم يضحون بالمال ولا يكفرون بالله.
قال: وفي عشية هذا اليوم جاء رجل إلى باب دار عفان بن مسلم، وقال: هذه دار عفان؟ قال عفان: نعم فقال: أين عفان؟ قال: أنا عفان، قال: هذه صرةٌ بألف درهم ولك في كل شهرٍ مثلها! -وهذه صحيحة- وهو لا يعرف الرجل ولا يعرف من الذي أرسل الرجل، ومن الذي أعطاه الألف درهم: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦].
فالقصد أن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يضع الحكمة في موضعها، وألا ينزل في تعامله مع الناس إلى مستواهم، لو عامل الناس بمستواهم لتلون في اليوم ستين لوناً، مرة يصير لئيماً ومرة سافلاً، ومرة قبيحاً، ومرة طفيلياً فهذا لا يليق بالداعية أبداً، كيف سيعلم؟! فعامل الناس بمستواك وبما يليق بك ولا تنزل إلى مستواهم؛ فإن الله عز وجل جمع لك السلطان عليهم بأن جعل الدواء في يديك.
قيل لأهل البصرة: بم فاز فيكم الحسن البصري؟ ولماذا أصبح ذكره على كل لسان؟ فقالوا: استغنى عن دنيانا واحتجنا لعلمه.
إذاً: عليك أن تبعد عن الملوك والرؤساء وأصحاب الأموال وكل هؤلاء، وتعامل الآخرين بما يليق بمكانتك.
إن الملوك بلاءٌ حيثما حلوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فاستغن بالله عن دنياهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذل اعرف مكانة العلم الذي بين جنبيك يرفعك الله تبارك وتعالى، وخلاصة الأمر: عامل الناس بقدر ما عندك من العلم، ولا تتحامق، ولا تجهل عليهم، فليكن عندك الصبر والذكاء والتغافل، وإنزال كلّ رجلٍ منزلته، لا توقر أهل الفسق ولكن أرشدهم، ووقر أهل الكرم ولا تزاحمهم، ولا تجادلهم فيمقتوك، كثرة المراء تورث الحقد والغل والبغضاء في الصدور، وعدم قبول الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من ترك المراء وإن كان محقاً بني له بيتٌ في ربض الجنة)، ولو كان محقاً في المراء فعليه أن يتجنبه حتى لا يطول الكلام، وحتى لا يجر المراء إلى خلاف أو إلى شتم أو إلى تغير القلوب؛ لأن المراء لا يكون من ورائه خير أبداً ولو كان بدايته حقاً، فإن عاقبته لا تئول إلى الحق أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء ولو كان محقاً)، فكيف بمن يماري وهو مبطل؟ ولذلك الداعية إلى الله عز وجل يحمل على كاهله عبء الأمة كلها، وينبغي أن يكون شفوقاً، وصاحب نظرة واسعة لوضع المسلمين، ما يراه من هموم الدعوة خارج أقطار بلده ينبغي أن يؤرقه، وينبغي أن ينظر إلى الحل، ويراسل إخوانه من الدعاة، ويمد الجسور بينه وبين إخوانه من الدعاة إلى الله عز وجل، وليكن استماعه إليهم أكثر من كلامه معهم.