للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين أصحاب يوشع بن نون وأعدائهم الجبارين]

في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام، وكان خرج ليقاتل الجبارين، وقد قرأتُ في بعض الروايات الإسرائيلية أن هؤلاء الجبابرة كان طول أحدهم أكثر من ستين ذراعاً، وهذه الرواية فيها نكارة، لأن آدم عليه السلام أول مخلوق كان طوله ستين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة).

فنتصور أنه لا يوجد إنسان في الأرض أطول من آدم عليه السلام؛ لكن الرواية هكذا قالت أن طولهم كان طولاً شديداً، وقوم يوشع كان طولهم معتدلاً، لدرجة أن أحد قوم يوشع عليه السلام دخل بستاناً يتجسس على هؤلاء الجبارين، فأحد من هؤلاء الجبارين، يبدو أنه كان يجمع برتقالاً أو عنباً أو شيئاً من هذا، وجد هذا مختبئاً فوضعه في كمه ومضى به، فخُذ من هذه الرواية الفرق بين قوم يوشع وبين الجبارين، وحتى اسمهم (الجبابرة) يظهر منه مدى ضخامة أجسامهم وقوتهم.

(فقال يوشع بن نون عليه السلام: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل رفع بيوتاً ولم يرم سُقُفها، ولا رجل له خلفات ينتظر نتاجها) لأن هؤلاء يُهْزَم المرء بهم، الرجل الذي عقد على المرأة ولما يدخل بها يتمنى أن يرجع حتى يبني بها، فلذلك إذا رأى بارقة السيوف هرب، لا ينتصر إلا الذي ودَّع الدنيا عندما يخرج، وأيقن أنه لن يعود، هذا هو الذي ينتصر، أما الذي يؤمل أن يعود فإنه كلما رأى بارقة السيوف هرب بجلده، لأنه يريد أن يعود حتى يتمم مراده الذي تركه.

(ورجلٌ رفع بيوتاً)، أي: رفع الجدر ولا يزال السقف غير مكتمل فهو يتمنى أن يرجع ويكمل البيت لكي يسكن فيه، (ورجل له خلفات): التي هي الضأن أو المعز، (ينتظر نتاجها)، أي: عنده مثلاً مائة رأس ومنتظر أنها ستلد أيضاً مائة رأس، ويحلم أنه يكبر هذه التجارة.

قال: لا يتبعني أحد من هؤلاء؛ لأن الذي يتمنى أن يعود أو يضع في حسبانه أن يعود لا ينتصر، وهنا كلمة نسبت مرة إلى أبي بكر الصديق ومرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يحصل نوع من المكاتبات بينه وبين عدوه كان يقول لهم: لقد جئتك برجال يحرصون على الموت حرصكم على الحياة، أنت ماذا تفعل به إذا أراد الموت، إن انتصر وغلبك كان سيداً في الأرض، وإن قتلته فاز بمراده، فما تفعل برجل ينتظر إحدى الحسنيين؛ لذلك كانوا يرهبونهم وهم في مكانهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، أي: يكون بيني وبين عدوي مسيرة شهر على الأقدام وهو مرعوب مني، وأنا لم أتحرك من مكاني.

فالإخلاد إلى الدنيا هو سبب هذا الوهن الذي دب إلينا.

فيوشع بن نون عليه السلام انطلق بالجيش ووصل القرية -كما في رواية الحاكم - يوم الجمعة، وبدأ القتال عصر يوم الجمعة، وأولئك جبارون، وهؤلاء بالنسبة للجبارين أقزام، لكن القوة هي قوة القلب، ليست قوة البدن، لو تجمع قلبك قوي ساعدك، ولو تفكك قلبك ذهبت قوتك، ولذلك أنت تجد إنساناً أول ما يخاف تنفلت أعصابه وتنهار قواه، طالما قلبه تفتت انتهت قوته، إنما الإنسان إذا تجمع قلبه قوي ساعده، والمؤمن قلبه بيد الله عز وجل، فلا يخاف الموت؛ لأنه يتمناه، لذلك ما كانوا يضعفون أبداً.

هؤلاء -الذين يعتبرون أقزاماًَ بالنسبة للجبابرة- ظلوا يقاتلونهم قتالاً شديداً حتى غربت الشمس، وكادوا أن يدخلوا البلد، أي: أنهم هزموا الجبارين، ولكن ما زالوا يقاتلون فلول الجبارين الأخيرة، فلو أن الشمس غربت يكون قد ذهب جهادهم كله، ومن الممكن أن يبدءوا الجهاد من اليوم التالي، ومن الممكن ألا يضمنوا النتائج، (فالتفت يوشع عليه السلام إلى الشمس وقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم ردها علينا، فرجعت الشمس كما كانت، فلا زال يقاتل حتى فتح له).

فنحن نفهم من هذا أن الدنيا إذا كانت في القلب فهو الخور، والضعف الحقيقي، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما كانوا كذلك، كانت الدنيا في أيديهم، وكانوا سادة الأرض، ما كان هناك في الدنيا أمة أعز من هذه الأمة؛ لكن لم تكن الدنيا في قلوبهم، كثير من الأجيال التي أتت بعد ذلك الدنيا ليست في أيديهم فقط، بل في قلوبهم، وهذه من المصائب، ليتها إذ حلت في قلوبهم كانت في أيديهم، لكن حلت في قلوبهم وليس في أيديهم منها شيء.