قلتم: إن الإخلاص يعرفه العبد من نفسه وفٌهم ذلك مطلقاً، فكيف يفهم في ضوء ذلك الحديث الوارد في قول الله جل وعلا:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:٦٠]؟
الجواب
لا تعارض بين أن يعرف المرء الإخلاص لنفسه وبين هذا الحديث، وهذا الحديث هو:(أن عائشة رضي الله عنها تلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:٦٠] فقالت عائشة: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ -يعني: يفعل الفعل وهو خائف؛ لأنه سيرجع إلى ربه فيحاسبه، أهو الذي يزني فيخشى أن يحاسبه ويسرق ويخشى أن يحاسبه- فقال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام جاءوا بزكاة وصلاة وصدقة، ويخشون ألا يتقبل منهم) ليس معنى معرفة الإخلاص أن يركن العبد إلى عمله ويظن أنه مقبول، هناك فرق بين قبول العمل وبين صحة العمل.
فلو أن رجلاً توضأ واستوفى وضوءه، واستقبل القبلة وأتى بأركان الصلاة، وأتى بشرائطها وواجباتها ومستحباتها، وبعد أن أنهى صلاته التفت إليك وقال: أأنا مثاب على صلاتي؟ فلا تقل له: أنت مثاب، ولكن قل له: صلاتك صحيحة، أما مسألة الثواب فهذا لا يعرفه أحد، فعلى العبد المؤمن أن يهضم حظ نفسه، خشية أن يكون عنده رياء وهو يعمل، وليس في هذا معارضة؛ لأن الرجل يعرف أنه عمل هذا العمل بإخلاص، ليس فيه معارضة إنما هذا هو شأن المؤمن دائماً.
أعظم العبادة: أن تعبد الله بالخوف والرجاء، فلو عبد العباد ربهم بالخوف فقط لقنطوا، ولو عبدوه بالرجاء فقط لاغتروا وتجاوزوا، فأفضل العبادة ما اقترن فيها الخوف بالرجاء، لكن كيف تكون عبادتك أفضل عبادة؟ يكون ذلك حين يفعل العبد الفعل ثم يغلبه الخوف أن الله لا يقبله؛ لأنه لم يستجمع قلبه فيه، فما هو الحل؟ الحل أن يحسن عمله، الذي ظن أنه ناقص، فبعد أن يحسنه يغلبه الخوف أيضاً فيخشى ألا يتقبل عمله فيحسنه، فلا يزال هكذا في تحسين دائم حتى يلقى الله عز وجل وهو محسن لعمله، أما إذا ركن وفعل الفعل، وقال: أنا فعلت ما عليّ، فهذا أول الفساد.
هناك من الناس من يتصور أنه لو صلى وصام وحج وأخرج فضول ماله أنه قد فعل ما عليه، لا.
فقد كان يعزى إلى عمر بن الخطاب أنه يقول:(لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا-أي: القوس- ما بلغتم الاستقامة) أي: الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها، وهذه الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها كامنة في قوله صلى الله عليه وسلم:(ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم) هذا يدلنا على أنه ليس هناك أي إنسان أبداً على وجه الأرض -حاشا الرسل- يستطيع أن يفعل كل ما أمر به.
والمقصود كل ما أمر به من باب المستحبات وليس الواجبات؛ لأن الواجب -كما عليه العلماء- هو: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، ويعاقب تاركه، فبإمكان كل إنسان أن يفعل ما أمر به وجوباً، إنما قصد الحديث في المستحبات التي لا آخر لها، أما الواجب فإنه يفعله لزوماً إلا إذا عجز، فيسقط الواجب عنه بالعجز، فيبقى قول النبي عليه الصلاة والسلام:(ما استطعتم)، وهذا الحديث -أيضاً- مناسب وهو ترجمة لقول الله تبارك وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:١٦].