[الجمع بين التجارة والعلم مذهب كثير من العلماء]
قال: (كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً).
وهذا يدلنا على أنهم لم يكونوا يتفرغون لطلب العلم، بل كان بعض العلماء المشاهير لا يتفرغون أيضاً لطلب العلم، بل كانوا يجمعون ما بين التجارة وما بين طلب العلم.
ومن أشهر هؤلاء الذين عقدت عليهم الخناصر في التجارة وفي العلم وفي الجهاد هو الإمام ذو الفضائل عبد الله بن المبارك.
هذا الرجل لو قرأتم سيرته لأحببتموه غاية الحب! وكان تاجراً، وكان ينفق على أعظم ستةٍ من علماء عصره، بل من مشايخه، فكان ينفق على السفيانين والحمادين وابن علية والفضيل بن عياض، أي: كان ينفق على سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض وإسماعيل بن علية، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) وكان شديد السخاء، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، حتى أنه ذات مرة جاء إليه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقيل له: إن هذا الرجل لديه مالٌ كثير، وهو يأكل المشوي -همس إليه رجل بهذه المقالة- وهؤلاء يأخذون الأموال ويكنزونها، وهم أغنى منا، فلماذا تعطي هؤلاء؟ فليس بفقير طالما أنه يأكل المشوي واللحوم، فقال ابن المبارك: آلله؟! أي: أهذا حقاً يأكل المشوي؟! قيل: نعم.
قال: إذاً هذا لا يكفيه عشرة دراهم، هذا لا يكفيه إلا مائة درهم.
انظر إلى فقه هذا الإمام! لأن العبرة أن يخرج المال من يده، وليست العبرة أن يقع في موقعه أم لا، فهذه مسألة وهذه مسألة، ولكن عندما يطاوع المرء شحه، ويقول: هؤلاء الناس ليسوا محتاجين، وغير مستحقين، ومعهم أموال، ولو وجدت مستحقاً لأعطيته.
هب أنك أعطيته وهو غير مستحق، فما يضرك؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه-: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل، فوجد امرأةً، فوضع الصدقة في يدها، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على زانية! فقال الرجل: الحمد لله! على زانية؟! لأتصدقن الليلة بصدقة.
فخرج فوجد رجلاً، فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوجد رجلاً فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني؟!) لماذا أعاد الصدقة ثلاث مرات؟ لأنه في كل مرةٍ يرى أنها لم تقع في موقعها الذي يريد، فهو يريد أن يوقعها في يد مستحقٍ لها، فوقعت في يد زانية، فلعلها تستعين بهذا المال على الزنا، ووقعت في يد سارق، فبدلاً من أن تقطع يده يعطي مالاً، ووقعت المرة الثالثة في يد رجلٍ غني غير محتاج.
فجاءه ملك في صورة رجلٍ، فقال له: (أما صدقتك فقبلت) هذا هو المطلوب، المهم أنك تتصدق، وتصل إلى أي مكان لا يضرك إذا ابتغيت بها وجه الله عز وجل (فأما المرأة الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله يخرج الذي عنده، فنحن نستدل بهذا الحديث على أن الصدقة على أهل المعاصي مع تتبعهم ورعايتهم أفضل من إعطاء الصدقة -أحياناً- لبعض الملتزمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطي العطاء لرجالٍ ويدع من هم أحب إليه منهم) ويقول: (أكلهم إلى إيمانهم) والرجل الملتزم إذا لم تعطه، فلن يكفر ويفسق ويترك التزامه، بل سيصبر على الجوع والعطش، بخلاف الرجل الحديث العهد بالإسلام، فإنك إذا أعطيته التزم، وسهم المؤلفة قلوبهم أخذ منه كثير من الصحابة الذين تألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال، ثم حسن إسلامهم.
فكان عبد الله بن المبارك رحمه الله يتعامل بهذه العقلية؛ لأنه إمام فقيه محدث، فكان يجمع بين التجارة والعلم، وانظر إلى دواوين الإسلام، فلا تكاد ترى باباً يخلو من ذكر عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى.
وكذلك أبو حنيفة رحمه الله كان تاجراً، والإمام الشافعي رحمه الله، كانت له تجارة لطيفة وصغيرة.
المقصود: أن طالب العلم ليس من شرطه أن يتفرغ، بل قد يجمع بين العلم وبين التجارة؛ لكن ذلك يحتاج إلى همةٌ عالية.
ابن أبي داود - عبد الله بن أبي داود السجستاني - قال: رحلت إلى أبي سعيد الأشج فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء فكان يأكل كل يوم أربع حبات أو خمس حبات.
وليس كما نصنع نحن اليوم، نأخذ (الساندويتش) الفول، ونضع فيه نصف كيلو فول، ونأكله في لمح البصر! قال: فما نفدت الباقلا حتى كنت قد كتبت عن أبي سعيد الأشج ثلاثين ألف حديث.
وكان معه الخبز اليابس الذي لو ضربت به في جلدك ربما جرحك، فكان يذهب إلى الفرات، ويبله فيه حتى يلين ويأكله، وكان مقدار أكله في اليوم الواحد عبارة عن أربع حبات فول مع رغيف واحد.
وواصل هؤلاء الأئمة الكبار الجد والرحلة في طلب العلم، وقل أن تجد الآن رجلاً يجمع بين التجارة والعلم، أي: إما هذه وإما تلك، وإنما البكاء -كما يقول ابن الجوزي رحمه الله- على خساسة الهمم.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينزل يوماً إلى تجارته فيصلحها، وإلى معاشه فينظر فيه، وينزل يوماً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه طريقة جيدة حتى لا يفوته شيء من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل أتى بخبر الوحي وما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا نزلت فعلت مثل ذلك.