[وصف الجو النفسي الذي في قصة إبراهيم]
سل أي محب: صف لي من تحب.
لو أجاب لخلع كل جميل الخصال ونعوت الجلال على من يحب، وهكذا عين المحب لا ترى سيئة على الإطلاق، كما قيل: وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ كما أن عين السخط تبدي المساويا وفي المثل الدارج عندنا: (حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يبحث لك عن الغلط) الزلط: الحصى.
إذاً المحب لا يرى عيباً فيمن يحب، ولو رأى فيه عيباً لم تكن محبته تامة، لو جاز له أن ينسب إلى حبيبه عيباً لما كان محباً كامل المحبة، ولا يكون كامل المحبة إلا إذا عمي عن عيوب حبيبه، فكيف إذا لم يكن لمحبوبه عيبٌ أصلاً؟ إبراهيم عليه السلام أخبرنا الله عز وجل بقصته، وفيها عبرة للباحثين عن الحق في زمان الغربة، ما أغرب إبراهيم عليه السلام! رجلٌ واحدٌ موحد في أمة الكفر، ما أغربه! لكن ما أقواه إذ لاذ بذي الجلال! فكان أقوى منهم جميعاً.
وأرجو وأنت تسمع الآية، أن ترسل خيالك في توصيف الجو النفسي الذي كان يعيش فيه إبراهيم عليه السلام وهو يبحث عن صفات إلهه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:٧٦] يذكره الله وكأنه ليس في الكون غيره، فهو وحده الذي لفه حزام الظلام، وكلمة: (جنَّ عليه الليل) تفيد أنه في كبد الليل، فهو يعرف الوقت الذي نامت فيه العيون وهجع الخلق، وهو مستيقظ.
ومعلوم أن العاشق لا ينام، المحب لا ينام، مسهد الطرف دائماً، مشغول بمن يحب، يسأل نفسه: ماذا يفعل المحبوب الآن؟ هل يفكر فيَّ كما أفكر فيه؟ ويسأل نفسه نحو هذه الأسئلة، ومع ذلك لا يتضجر من كثرة السهر؛ لأنه يسهر لمن يحب.
كلمة (جنَّ عليه الليل) أي: في كبد الليل، في كبد الظلام، في الوقت الذي كل الناس فيه مستمتعة بالنوم هو مستيقظ، وكأنما لفه الليل وحده بظلامه، وهو يبحث عن صفات إلهه الذي هو مستيقن من وجوده، لكنه يريد أن يتمثل بشيءٍ يراه جميلاً، يقول: هذا ربي.
(فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً) منيراً في وسط هذا الكون المظلم، إذاً هذه هي النقطة الوحيدة الجميلة في الكون، فقال: إذاً! هذا هو إلهي.
وهكذا المحب لا يرى سيئة لمن يحب، وينسب كل نعوت الجمال وجميل الخصال لحبيبه وإن لم يكن كذلك، فالنجم علامة مضيئة في هذا الكون {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦].
لماذا لم يقل: أنا أكره الآفلين؟ لماذا نفى الحب ولم يثبت الكره؟ لأن ذكر الحب حتى لو على جهة النفي فيه تهييج للحب، عندما تقول لأحد: أنا لا أحبك غير ما تقول له: أنا أكرهك، فقولك: (أنا لا أحبك) معناها بقاء سبيل للحب، أما إذا قلت: أنا أكرهك، فكأنما قتلت الحب، كما قال القائل: وكنت إذا ملني صاحبي ولم أر في وده مطمعاً غسلت بماء القِلى شخصه وكبرت من فوقه أربعاً فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا فقال: (غسلت بماء القلى شخصه) أي بماء الكره، وإمعاناً في إثبات هذا الكره كبرت من فوقه أربعاً، أي: صلاة الجنازة، مات وصلى عليه الجنازة، وقوله: فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي: فإذا كان يمكن رجوع أي ميت، فهذا يمكن أن أعيد العلاقة معه.
فعندما يقول: لا أحب الآفلين، أي: إن إلهي الذي عرفته بنفسي لا يغيب عني طرفة عين، ولا أصدق أن هذا الذي يغيب يمكن أن يكون إلهاً لي، وإلهي ما غاب عني طرفة عين.
إذاً: غياب الإله عن حياة العبد نقص، وهذا دالّ على رجاحة عقله وفطنته، كما قال الله عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:٥١]، فهو مسدد يعلم من قبل أن يأتيه وحيٌ أن غياب الإله عن عبده نقص، إذاً: معنى ذلك أن الإله لابد أن يكون موجوداً، ولذا قال: لا أحب الآفلين.