[المحدثون هم الفقهاء لا العكس]
السؤال
كثيراً ما يقول الإخوة أن الشيخ الألباني -رحمه الله- محدث وليس بفقيه؟
الجواب
الذي قال هذه الكلمة إذا كان بمستوى الشيخ يستطيع أن يحكم عليه فله ذلك، ولكن لا أظن أن يكون قائل هذه الكلمة عادة في مستوى الشيخ، بل لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يساوي قلامة ظفر الشيخ.
هذه دعوة قديمة التصقت بأهل الحديث من قوم يبغضونهم، فكيف يتصور في الذي يحمل الأدلة أنه لا يفقهها؟ أيفقهها الذي ليس عنده من الدليل شيء؟ ولذلك كانوا يشنعون على أهل الحديث، يقول بعض العلماء: دخلت الكوفة فإذا قاض لهم -أي: لأهل الرأي- يقول في حلقة: مساكين أهل الحديث لا يدرون الفقه.
قال: وكانت بي علة فحبوت إليه، وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيء قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيء قال زيد بن ثابت؟ فسكت، فقلت: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا فأي شيء قال أبو بكر؟ وأي شيء قال عمر؟ وأي شيء قال أبو عبيدة؟ فسكت، فقلت له: أنا أخف أصحاب الحديث، سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ وكانوا دائماً يصفون أهل الحديث بذلك، ولذلك لما جاء الإمام الشافعي رحمه الله وقد جمع بين الفقه والحديث ناظر أهل العراق وأوقفهم، حتى سماه أهل مكة: ناصر الحديث، وهو شامة في جبين المحدثين، ولذلك إذا عد فقهاء المحدثين يذكر الشافعي رحمه الله في مقدمتهم لماذا؟ لأنه أوقف دعوى أهل الرأي أن أصحاب الحديث لا يفقهون، حتى إن الشافعي كان لا يعجبه كثير مما يقول أهل العراق، لكن أدبه حمله على ألا يناظر شيخه محمد بن حسن الشيباني، مع جزم العلماء بأن الشافعي أعلم من محمد بن حسن الشيباني، كيف لا وهو معدود من المجتهدين على الإطلاق، ومحمد بن حسن الشيباني معلوم أنه من شيوخ الناس ومن مجتهدي المذهب فكان مع رسوخه في العلم وتواضعه يترك هؤلاء حتى يقوم الشيخ ويبتدئ يناظر كل أهل المجلس، فلا يستطيعون معه جواباً لماذا؟ لأن عنده أحاديث، وعنده: قال حدثنا أخبرنا.
فلما ضجوا منه ولا يجدون له جواباً، وكان حظهم من علم الحديث قليلاً شكوا ذلك إلى محمد بن الحسن وقالوا: إنك إذا قمت من المجلس ناظرنا الشافعي فما نستطيع معه جواباً، فقال له محمد بن الحسن: (إنه بلغني أنك تناظر أصحابي تناظرني؟ فقال له: إني أجلك عن المناظرة.
قال: لابد.
فتناظر معه في مسألة المياه، فلما تناظر معه طويلاً في مسألة المياه -وهذه المناظرة ملحقة بكتاب الأم- قال: إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: (تخاطأ) فقال بقولكم في الماء لكان قد أحسن التخاطؤ.
ولما جاء إسحاق بن راهويه رحمه الله فكأنه استقل الشافعي، فرسم لمحدثه بالفارسية أن هذا الشافعي ليس بقوي، وكان الشافعي يعرف الفارسية، فعلم أنه يحط عليه، فكان الشافعي متكئاً فجلس وقال له: تناظر؟ فقال له إسحاق: ما جئت إلا لذلك، فتناظروا في المسألة المعروفة في (بيع وشراء بيوت مكة) فظهر عليه الشافعي ظهوراً بليغاً.
فمسألة رمي المحدثين بقلة الفقه هذه مسألة قديمة، ما من سوء أن يكون هناك من المحدثين من لم يهتم إلا بفقه الرواية، وهذا كثير، فمن الناس من ينتسبون إلى أهل الطرائق وليسوا منهم، يعني: كثير من الناس يقول: أنا محدث.
وتجده لا يعرف شيئاً عن علم الحديث، فهل يجرح أهل الحديث به؟ لا، الشيخ ناصر الدين رحمه الله رجل أحيا الله تبارك وتعالى به السنة، وأحيا به فقه الحديث، وهو يخالف في مسائل كما يُخالف العلماء، له مسائل تفرد بها كما تفرد غيره، فلا يعني ذلك أنهم يطعنون عليه في هذه المسائل التي خالف فيها أنه ليس بفقيه، فما من إنسان إلا وقد خولف.
الشيخ حفظه الله لا يعرف قدره إلا من جالسه ورآه، هذا الرجل لو رأيته لقلت: سقط من القرون الثلاثة الأولى، على محياه نضرة السنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها) وأشهد والله العظيم كأن نضرة الحديث على وجهه، رجل إذا اعتقد شيئاً لا يحابي فيه، حتى وإن أدى ذلك إلى ضرره، فحسبه أنه رجل طريد ليست هناك دولة في الدنيا تتبناه، مع الفضل الذي أجراه الله تبارك وتعالى على يديه، وما من رجل ينسب إلى الحديث والسنة في هذا العصر -لا أقول: هذا مبالغة في مدح الشيخ حفظه الله تعالى، وإلا فهو مستغن عن مدح أمثالي- إلا وللشيخ عليه منة وفضل، وكتبه يشهد بها القاصي والداني.
وقد سئل سماحة الشيخ العلامة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تبارك وتعالى، قيل له: (أقلت ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ الألباني؟ قال: ما قلت ذلك، لكني أوافق عليه) وكان الشيخ رحمه الله في مجلس عند رجل ممن يعادون الشيخ الألباني، فسأل هذا الرجل الشيخ ابن باز رحمه الله، قال له: ما تقول في حديث كذا وكذا أصحيح؟ قال: عندك كتاب إرواء الغليل؟ الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل ممن يعاند الألباني، قال له: عندك إرواء الغليل؟ فقال له: نعم.
قال: هات الجزء الفلاني، فصعد الرجل إلى مكتبته وأتى بالجزء وفتحه وقال: اقرأ علينا ما كتب الشيخ.
المهم قرأ الرجل وفي الأخير قال: يا شيخ! ما تفعل بهذا الألباني؟ فقال: إن مصنفات الألباني لا يستغني عنها عالم ولا طالب علم.
وهذه حقيقة، قد رأينا الذين يكرهونه عيالاً عليه، ويسرقون عمله؛ ولكنهم كاللص الماكر.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمه رحمة الأبرار، وأن يهدي هؤلاء إلى معرفة قدر العلماء.