للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجهل يوقع صاحبه في الشبهات والوساوس والعلم يعصمه منها]

من الأدلة على أن العلم يحرسك: أنك إذا جاءتك شبهة وعندك علم، لا تؤثر فيك، ولا تضيع مذهبك؛ لأنك عارف لجوابها، لكن إذا جاءت شبهة على رجلٍ آخر، تؤثر فيه وتربكه.

فإذاً: العلم حرسك، وحرس قلبك.

والآخر اجتالته الشبهات.

كنت مرةً في محطة الحافلات فجاءني رجلٌ، كأنه توسم فيّ أن يجد عندي حلاً، قال: كنت أخرج في سبيل الله، وفي يوم من الأيام هجم على قلبي خاطر سيئ في ذات الله، حاشا لله العلي الكبير، فجعل يدخل قلبي ويطرق بابه بشدة: مَن خَلَق الله؟! مَن كان قبل الله؟! هل الله يرى كل هؤلاء؟! يستطيع أن يعرف كل هذا؟! هل هذا كذا هل هذا كذا؟! إلخ.

فهذه الوساوس ما استطاع أن يتخلص منها ولم يجد لها حلاًّ، فقال في نفسه: هذا من كثرة العبادة، سأروِّح عن نفسي ساعة، (ساعةٌ وساعة)، أدخل في الدنيا أتاجر، ربما أنسى هذا الخاطر، قال: فخرجت، فما هي إلا أيام استرحتُ فيها ثم عاد علي أشد مما كان، فقلت له: أنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، شخصٌ وجد الدنيا حارة فدخل فرناً، كما يقول أهل الشام: كنا تحت المطر صرنا تحت المضراب.

وهذا يذكرني بشخص كانت لحيتُه سابغة، قابلته ذات مرة وقد حلقها، فلم أعرفه، ولذلك لم أُلْقِ عليه السلام فناداني، فلما رأيته استعجبت، وقلت: ما هذا يا فلان؟ ما الذي جرى لك.

قال لي: أنا حلقت لحيتي.

فقلت له: لماذا؟ ما الذي حصل؟ احْكِ لي.

قال: دخلتُ مسجداً يوم جمعة، وكان الإمام قد غاب عن صلاة الجمعة، فأول ما دخلتُ قالوا: مولانا وصل، رجل ملتحٍ واللحية سابغة، فأول ما دخلتُ قالوا: الحمد لله، وجدنا الإمام، وسارعوا إلي: قم يا مولانا اخطب.

فقلت: أنا لست مستعداً.

فقالوا: لا بد أن تخطب، قل أي شيء، أو أي موعظة، أنصليها ظهراً؟! فحاول أن يعتذر ولكنهم غلبوه.

فصعد على المنبر ولم يستطع قول شيء، فقال كلمات مما عنده، ثم صلى وهو لا يحسن التجويد، وبعد هذا الموقف خرج، فهل قرر أن يتعلم ويسد النقص والفضيحة التي وقع فيها، وقال: أنا دوائي العلم، لابد أن أحفظ لي خطبة أو شيئاً من هذا؟ لا.

بل قرر أن يحلق لحيته! وهذا كحال الذين ذكرهم الله في كتابه: {قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:٣٢] ما قالوا: اهدنا إليه، بل قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:٣٢]، مع أن كلام العقلاء أنه: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:٣٢] فاهدنا إليه، هذا الكلام الذي يجب أن يقال، وليس {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:٣٢].

فهذا بدل أن يتعلم ويقول: إن العلاج في العلم، قال: أحلقها، حتى أكون من غبراء الناس.

فعجباً لهذا الحل!! وهذا عندما رأى الوساوس تهجم على قلبه، قال: أنا استكثرت من العبادة، وهنا كان الواجب عليه أن يتجه إلى العلم؛ ولكنه اتجه إلى الدنيا، مع أن أهل الدنيا في حيرة، يعني: الذي في الدنيا تائه، فكان بإمكانه أن يتجه إلى العلم قليلاً، من أجل أن يخفف عن نفسه قليلاً من العبادة؛ لأنها سترهقه.

فهذا لأنه عابد، ما عنده علم، أول ما تصرف تصرف تصرفات ليس عليها نور.

فلو كان هذا الرجل يصاحب العلماء لعرف الحل مباشرة؛ لأن مثل هذا الذي وقع فيه هذا الإنسان حدث لأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن الشيء ليخطر ببالنا في ذات الله لَأَن يخر أحدنا من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَقَد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان).

هذا هو الإيمان المحض (والصريح) هو الخالص، يقال: صريح اللبن، أي: اللبن الخالص (ذاك صريح الإيمان) أي: هذا هو أس الإيمان وحقيقته، وليست حقيقة الإيمان هي الشك في ذات الله، بل المقصود من الحديث، (ذاك صريح الإيمان) أنه لولا الإيمان الذي حجزك لتكلمتَ.

فإذا خطر ببال الإنسان شيء من هذا فكتمه واستغفر الله منه فهذا هو الإيمان؛ لأنه لو لم يكن عنده إيمان لتكلم به، إنما الذي حجزه وربط لسانه هو الإيمان، فذاك صريح الإيمان، وفي لفظ آخر لهذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، ما استطاع أن يأخذ أكثر من الوسوسة، والوسوسة معفوٌ عنها، فكأن الشيطان ما أخذ شيئاً.

إذاً: العلم نور.