[التوكل على الله وحسن الظن به]
إن الذين تنفك عزائمهم في المحن لا ينظرون إلى الله حال الابتلاء؛ لكن ينظرون إلى كيد العدو، لذلك تنفسخ العزائم؛ إذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا اخرج، سأل نفسه سؤالاً: أنا لو خرجت فمن أين آكل؟ أين أبيت؟ هذه هي الجهة التي نظر إليها! هل لما ولى وجهه قال: الله يؤويني ويسترني، ولا يضيعني وقد أطعته، وقد حفظني وأنا عاصٍ له.
فلا تظْنُن بربك ظن سَوء فإن الله أولى بالجميل لكن الجهة التي ينبغي أن يَنْظُر إليها ليس فيها أحد؛ لذلك انفسخ عزمه.
التوكل على الله عز وجل أصله اعتماد القلب على الله.
أيها المبتلى! أنت عبده، وأنت من خلقه، وإنما أنزل إليك الكتب وأرسل الرسل ليحمِيَك من عدوك، فاطمئن، لن يُسْلِمَك، وسيذكرك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩].
الله حسبك وكافيك، وانظر ما أجمل هذه الصفة! صفة الحَسْب، حَسْب، كل حَسْب ورد في القرآن مَعْزُوٌّ إلى الله عز وجل فهو خالص له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، لم يشركوا مع الله أحداً في الحَسْب.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤].
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:٦٢].
ثم انظر إلى هذا الموضع الجميل الجليل الدقيق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:٥٩]، فلما ذَكَر الإيتاءَ ذَكَرَه لله ورسوله، ولما ذكر الحَسْبَ أفْرَدَ نفسَه به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله} [التوبة:٥٩] لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل أفردوا الله بالحَسْب، إذ لا يقدر على رفع الضر إلا الله، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٧ - ١٨].
فالحَسْب اعتماد القلب على الله، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:٣٦]، هذا هو الحَسْب، فإذا اعتمدت في وقت المحن بقلبك على الله عز وجل لا يُسْلِمُك إلى عدوك.
إن العرب في الجاهلية وهم جهلاء كفروا بالله ورسوله، كان الرجل الضعيف إذا استجار بواحد قوي، وقال الرجل: هو جار لي، لا يقدر أحد على إيذائه لِمَنَعَتِه وقوته، فإذا دخلت في جوار الله عز وجل تظن أن الله يُسْلِمُك؟! تظن ذلك؟! لله در أبي بكر -رضي الله عن أبي بكر - لما خرج -كما في صحيح البخاري- مهاجراً وولى وجهَه شطر البحر قابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومك، أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.
قال: يا أبا بكر مثلك لا يَخْرُج ولا يُخْرَج، ارجع وأنا جار لك -أنت في حمايتي- ثم ذهب ابن الدغنة إلى الكعبة ونادى في الناس: ألا إني أجرت أبا بكر، فما تعرض أبو بكر بعدها لأذى.
وكان أبو بكر يصلي وقد اتخذ مسجداً في داره، فكان يصلي داخل الدار، فمضى وقتٌ، فبدا له أن يبني بيتاً في فناء الدار -خارج الدار- وكان أبو بكر رجلاً أسيفاً كثير الأسف سريع الدمعة، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع النساء والولدان عليه يتفرجون -ما هذا الشيء العجيب؟ أول مرة يرون رجلاً يبكي، ويسمعون كلاماً يقطع نياط القلوب- فلما رأى المشركون هذا المنظر، قالوا لـ ابن الدغنة: ما على هذا اتفقنا، مر صاحبك يدخل الدار؛ لأننا نخشى على نسائنا وأبنائنا أن يفتنوا، وإلا فرد جوارك، لن نسكت، لا نرضى أن نخفر جوارك، فجاء ابن الدغنة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر صل إن شئت في دارك ولا تستعلن وإلا رد علي جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أنني أخْفِرْتُ في جواري، قال أبو بكر: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.
فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل باب الأسماء والصفات باب خطير في زيادة الإيمان، وتأمل الأسماء المقرون بعضها إلى بعض، تزدد بها إيماناً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هَزْلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.