للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة المدرسة العقلانية ونقد أحد ممثليها]

السؤال

السائل يقول: الغزالي يمثل المدرسة العقلانية، ما أصل هذا النهج المنحرف؟ وكيف انحدروا ووقعوا فيه؟ كما لاحظنا أن كثيراً من الشباب السذج لا يعرفون خطر هذا الانحراف.

الجواب

الشيخ محمد الغزالي خطه من قديم تقريباً واحد، فالذي يتابع كتابات الشيخ الغزالي من أوائل ما بدأ يصنف، يرى أن كتابه الأخير ليس مفاجأة، إنما المفاجأة فيه أنه جمع كل الأوابد والطامات في هذا الكتاب، أما هذه فمتفرقة في كتبه كلها، فتقديم عقله على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم اكتراثه بعقول غيره هذه هي مصيبة هذا الرجل، كأنما هو الوحيد الذي يفكر ويتدبر ويفهم، تعجبت جداً! عندما أورد حديث موسى وملك الموت الذي رواه البخاري ومسلم، واعترض عليه اعتراضاً متهافتاً للغاية! فيقول: إن بعض الطلبة من الجزائر قال لي: هذا الحديث هل هو صحيح؟ فقلت له متبرماً: وما يعنيك؟ قال: أردت أن أسأل عن صحته.

قال: فأجبته وأنا ضائق الصدر: الحديث مروي عن أبي هريرة.

ما علاقة روايته عن أبي هريرة بالصحة؟ هو لم يقل لك: من الصحابي الذي رواه؟ إنما يقول لك: ما صحته؟ مع كون هذا الرجل يعلم أن هذا الحديث في الصحيحين، لكنه لم يصرح بأن الحديث في الصحيحين؛ لأن تصحيحه أو اعتراضه على حديث في الصحيحين دعوى فجة من مثله، لذلك هو يتبرم ويحوم ويدور ويتحاشى أن يقول: إن الحديث في الصحيحين.

يقول: فلما رجعت إلى هذا الحديث في بعض مصادره -ونقل من شرح الإمام النووي كلاماً للمازري والخطابي وغيرهما- قال: ودافعوا عن هذا الحديث، ودفاعهم كله دفاع تافه خفيف الوزن لا يساغ، قال: ثم رجعت أتأمل وأتدبر فوجدت أن الحديث فيه نكارة، إذ كيف يكره الصالحون الموت؟! بل كيف يكره نبي بل رسول بل من أولي العزم من الرسل الموت؟! وهل الملائكة تصاب بالأعراض وأنه فقأ عينه؟! قال: ورفضت الحديث.

رفض الحديث بهذا التفكير الذي لا يعجز عنه أسخف الناس تفكيراً من الذين لا يتمتعون بعقل راجح يقولون مثل هذا القول، كيف وهذا الرجل داعية من عشرات السنين؟! ويقول: فرجعت أفكر وأتدبر، معنى ذلك أنه فكر ملياً في الأمر، لكن (تمخض الجبل فولد فأراً)، بعد كل هذا التدبر والتفكر ما وصل إلا إلى هذه النتيجة السقيمة، ما وسعه شروح العلماء السابقين، هلا عندما يردها يردها بعلم وحلم بدلاً من أن يصف أولئك العلماء كـ ابن خزيمة والحافظ والنووي والمازري والخطابي وابن القيم وابن تيمية، وكل هؤلاء الذين مروا على هذا الحديث وغيره وفسروه تفسيراً مستقيماً، هل هؤلاء جميعاً دفاعهم تافه خفيف الوزن لا يساق؟! فهذا عجيب! لو قرأ مثلاً في فتح الباري وكلف خاطره لعلم أن في مسند الإمام أحمد رواية لهذا الحديث بسند صحيح أن ملك الموت كان يأتي الأنبياء على صورة رجل، فحينئذ سؤاله: وهل الملائكة تصاب بالأعراض؟ سؤال لا قيمة له؛ لأن الذي أصيب هو الجسم العارض، يقول: وهل الصالحون يكرهون الموت؟ يعني يقول له: أجب ربك، فيفقأ عينه ويفر من لقاء الله! هذا منكر.

نقول: رجل دخل على موسى عليه السلام، ما يعرف من أين دخل؟ والباب غير مفتوح والنافذة غير مفتوحة، وهو جالس في داره إذا به يجد رجلاً يقول له: أجب ربك.

وكان ملك الموت قد نزل -كما يظهر من الحديث- في هذه المرة بصورة تختلف عن الصورة التي كان ينزل بها على موسى، وكان هذا من باب الامتحان له.

إذاً الخلاصة أن موسى عليه السلام رأى رجلاً غريباً في الدار، من أين دخل؟ لا يدري، فعاقبه المعاقبة الشرعية -كما يقول ابن خزيمة - وفقأ عينه، لأن الناظر في دارٍ بغير إذن صاحبها تفقأ عينه، لقوله عليه الصلاة والسلام عندما رأى رجلاً ينظر قال: (لو أدركتك لفقأت بها عينك ولا دية لك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فإذا دخل البصر فلا إذن).

فلو جاءك رجل لا تعرفه وأنت في الدار وقال لك: أجب أمير المؤمنين.

هل تجيب أمير المؤمنين، أو كما عهدت من أمير المؤمنين أنه إذا أرادك أرسل لك حاجباً من عنده، وعلمت أنه لا يرسل آحاد الناس، إذ لا سبيل لآحاد الناس أن يصل إلى أمير المؤمنين؟ فقال لك: أجب أمير المؤمنين حالاً، أتستجيب له؟ فهذا رجل قال لموسى عليه السلام -ولا يعرفه-: أجب ربك؛ ففقأ عينه.

ولذلك لما صعد ملك الموت وقال لله تبارك وتعالى: (إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد عليه عينه وقال له: انزل لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثور فلك بكل شعرة مستها يداك سنة).

فلما نزل ملك الموت نزل هذه المرة بصورته المعروفة، لذلك موسى لم يفقأ عينه، ولو كان الرجل غريباً أيضاً لا يعرفه موسى لفقأ عينه في المرة الثانية، أما أنه لم يفقأ عينه هذه المرة؛ لأنه نزل بصورته التي يعرفها موسى عليه السلام، حينئذ فطن موسى أن هذا كان امتحاناً له، فقال: (إن ربك يقول لك: ضع يدك على متن ثور، فلك بكل شعرة مستها يداك سنة) فعلم أن الأولى كانت اختباراً له، لذلك قال: (أي رب: ثم ماذا؟ قال: الموت.

قال: فالآن)، فواضح جداً أن موسى عليه السلام له مبرر أن يفعل ذلك.

لكن في عجز الحديث أن موسى لم يكره الموت بل رحب به، قال: (فالآن) فهل في هذا الحديث أن موسى كره الموت؟ ثم هل الصالحون فعلاً يكرهون الموت أم لا؟ هذا الرجل يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت؛ لأنهم يرحبون بلقاء الله، وكذلك كل الذين لا يعتمدون على الحديث يزلون، يعتمد على عقله فقط، ولله در سفيان الثوري رحمه الله حيث قال: الحديث درج والرأي مرج، فإذا كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت.

يقول: إذا كنت تتبع عقلك ورأيك وهواك فالمسافة كبيرة جداً أمامك، تنتقل من رأي إلى رأي لأنه لا ضابط لك، فالرأي والذي يتبع الرأي مرج من المروج الواسعة والفسيحة، أما الحديث فهو درج سلم، فإذا كنت على السلم احذر أن تزل قدمك فتندق فتقع على أم رأسك.

يريد أن يقول: إن من يحتج بالأحاديث النبوية يجب عليه أن يحذر؛ لأنه مقيد بالنص، بخلاف الذي يعتمد على عقله إن سار يمنة ويسرة ما يضره، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن)، سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بأوامر ونواه: افعل لا تفعل كأنه مسجون، ليست هناك رغبة مطلقة لأي إنسان، كل رغباته محدودة ومقيدة، إنما الأشياء المطلقة لا يجدها المسلم إلا في الجنة، فالدنيا سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي؛ لأنه يمشي على درج.

فهذا الرجل لأنه لا يعني بالأحاديث النبوية ولا ينظر فيها، ويعتمد على عقله وفهمه، بغض النظر عن أفهام الناس وعقولهم، وفيهم ألوف مؤلفة عقل أقل واحد منهم يزن عقل عشرات مثله؛ فكان هذا سبباً في زلَله، لكنه لو نظر في الأحاديث النبوية لما أقدم على هذه الدعوى، وأن الصالحين يحبون الموت.

ونرد هذه الدعوى بحديثين: الحديث الأول: ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وفي آخر الحديث (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي بقبض روح عبدي المؤمن يكره إساءته وأكره مساءته) فهذا نص في أن العبد المؤمن يكره الموت، فمن أين له أن يقول: إن الصالحين يحبون الموت؟ الحديث الآخر: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.

قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) هنا الشاهد، ولو كان الصالحون يحبون الموت لقال لها: لا يا عائشة، هناك من يحب الموت.

أما وأنه أقرها على هذا القول -ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة- دل على أن إقراره عليه الصلاة والسلام لهذه الجملة في أن الصالحين يكرهون الموت.

ومن مثل عائشة رضي الله عنها في الصلاح؟! (قالت: كلنا يكره الموت.

قال: ليس كذلك، إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة رأى مقعده من الجنة؛ فتعجل أن يخرج من هذا الضيق إلى هذه الجنة؛ فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، ورأى العذاب الذي ينتظره، والنعيم الذي كان فيه قبل ذلك -بالقياس إلى هذا العذاب- كره أن تخرج روحه؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) واللقاء هنا معناه الموت، للحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (واعلموا أنكم لن تلاقوا ربكم حتى تموتوا) فدل أن اللقاء هنا ليس هو وقوف العبد بينه وبين ربه ليس بينهما ترجمان لا، اللقاء في هذا الحديث معناه: الموت، كما هو مفسر في هذا الحديث.

فهل في هذا الحديث ما يذكر أن يستنكر؟! وهل الرجل الذي تدبر وأمعن ونظر، ثم عبس وبسر، هل في نظره هذا أي فكرة عميقة أو أي أطروحة تستحق الاحترام؟! الجواب: لا، اعترض -كما قلنا- اعتراضاً لا يعجز عنه أقل الناس تفكيراً.

المدرسة العقلية معروفة، وهي المدرسة التي لا تكترث بعلم الأثر، ثم هم يحابون كتّاب العصر وأولئك العلمانيين، حتى إن الشيخ الغزالي نفسه مشترك مع بعض النصارى في إصدار مجلة اسمها: (كل الناس) عندنا في مصر، وفيها صور خليعة لنساء، وفيها لاعبي الكرة، وفيها كل شيء، فهذا يشترك مع أولئك؛ حتى لا يقال: متزمت.

فهذا الرجل من خلال كتاباته -وإن كان يقول: أنا أعتز بالإسلام، لكن يبدو أنه لا يعتز به، بل إنه يشعر بعقدة نقص إذا نسب نفسه للإسلام عند أهل الغرب، لذلك يتحاشى تماماً أن يخالف الحديثُ فكرَ أهل الغرب، ويظهر ذلك جداً في الأصل السقيم الذي يعتمده، وهو الترخص، وأخذ شواذ الفتيا من ا