للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[في الابتلاء سلامة للقلوب من أمراضها]

إن المرء يوم القيامة يوزن بقلبه، وسلامة هذا القلب فيه سلامة العقل، وكثير من الناس يظن أن العقل في الدماغ، وهذا غلط، فالعقل في القلب وليس في الدماغ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:٤٦] فالعقل في القلب وليس في الدماغ، فسلامة القلب معناها سلامة عقلك.

وهذا يعني: سلامة تفكيرك.

وهناك قصة مشهورة نشرت في الجرائد بمناسبة أن الدكتور مجدي يعقوب الجراح المصري الذي يقطن في لندن، قد أجرى عملية نقل قلب لشاب إنجليزي عمره تسع عشر سنة، ونجحت العملية عشرة على عشرة إلا أنها دمرت خلايا مخ الشاب، فرفع والد الشاب قضية على هذا الدكتور يطالبه بتعويض.

فبمناسبة هذا الخبر نشرت الجرائد قصة الدكتور برنر -أول طبيب نقل قلباً في الدنيا، وكان هذا سنة (١٩٦٣م أو ١٩٦٥م) - نقل قلباً لمريض في سويسرا، وبعد أن نقل هذا القلب بطريقة ميكانيكية جيدة، بدأ المريض يخلط بين الأمور؛ وظن في البداية أن ذلك من تأثير البنج، لكن المريض لم يفق وظل يخلط دائماً.

وبعد ذلك نقل هذا الطبيب برنر قلباً لرجل آخر، فبدأ هذا الرجل أيضاً يخلط بين الأمور، ويأتي بكلام لا يفهم معناه، فأرسل الدكتور مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي؛ مع أنه لا لقاء بينهما ولا يعرف أحدهما الآخر؛ لكنه يهذي بقصص وحكايات لصاحب القلب الأصلي حينئذ أسقط في يد هذا الدكتور، وعقد مؤتمراً صحفياً، وأعلن بأسى بالغ اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: ما قيمة إنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته؟! واعتزل الطب بسبب هذه المسألة، وهناك بعض الأطباء ينسون الفوط وأجهزة التليفونات في بطن المريض أحياناً، ويعتبرونه أمراً عادياً، وهذا فيه جناية على المريض.

واعلم أن العبد يوم القيامة يوزن عند الله بقلبه: (يأتي الرجل السمين البدين لا يزن عند الله جناح بعوضة) لماذا؟ قال ابن القيم رحمه الله: لأن العبد يوزن عند الله بقلبه: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٩].

وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب، وأول ما تريحه يموت، فالقلب بخلاف الجوارح، فعندما تأكل وتشرب جيداً تنمو الجوارح، وتكبر العضلات، وينتفخ صدرك، وتصير بحالة جيدة، فإذا قطعت الأكل لمدة أسبوع، تجد أنك قد نحفت، وأن العضلات بدأت تتفسخ تضمر؛ فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن، ففيها سلامة القلب، فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن، ولذلك اختار الله عز وجل البلاء، فجعله من نصيب أوليائه؛ لا لهوانهم عليه، ولكن ليحصن قلوبهم؛ لأن أحدهم لو استراح، وركن إلى الدنيا، ضعف قلبه، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً وأدناهم الناس همة هم أهل الترف، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:١٦].

(أمرنا مترفيها) يعني: بالطاعة: {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:١٦]، وفي قراءة أخرى (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها) أو (أمّرنا مترفيها) لكنها قراءة شاذة -أعني: (أمّرنا) - لكن العلماء يقولون: إن القراءات الشاذة تستخدم للتأنيس، كقراءة: (أمّرنا مترفيها) أي: جعلناهم أمراء، تخيل إنساناً أميراً وجاهلاً، فلا يشتهي شهوةً إلا وجدها عند أطراف أصابعه.

إذاً: حين ابتلاك الله عز وجل ليس لهوانك عليه، ولكن ليضمن سلامة قلبك له تبارك وتعالى، فلا تبتئس.

إن المؤمن مصاب ومبتلى، لكن مصيبته ومبتلاه في ذات الله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وسلامة قلبك تقتضي إذا شعرت بأي تغير في هذا القلب أن تتصل بالخالق سبحانه وتعالى مصرف القلوب.

سأضرب لكم مثلاً: لو أن شخصاً أحب أن يقتل ملكاً أو رئيساً، فهل يستطيع بمجرد أن يفكر بذلك أن يقتله؟ لا.

لا يستطيع ذلك، فلابد من أن يظل شهوراً أو سنين، يراقبه ويخطط لمصرعه، ولابد أن يعمل دراسة طويلة عريضة لماذا؟ لأن قتل الملوك ليس سهلاً، ومن الصعب جداً أن يقتل الإنسان ملكاً.

كذلك القلب -ملك البدن- لا يستطيع الشيطان أن يغتاله بسهم يصوبه إليه ابتداءً، فالقلب عليه حراسة شديدة؛ لأنه مِلْك الرب تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا القلب آية من آيات الملك تبارك وتعالى.

وإذا مات قلب الإنسان، فقد سبقته ذنوب كثيرة وسنوات من الغفلة، فسهل على الشيطان إصابة قلبه.

فالإنسان الذي يريد أن يلقى ربه بقلب سليم -أول ما يشعر أن هناك تغيراً في هذا القلب؛ وفيه قسوة شديدة وعينه لا تتأثر بالقرآن- ينبغي له أن يبحث عن طبيب رباني يداويه.

ولو أنك أصبت -والعياذ بالله- بتصلب شرايين أو جلطة أو غير ذلك من الأمراض، فإنك تسارع إلى الطبيب لتعالج جسدك قبل فوات أوان نفع الطب، فلماذا حين يكون الأمر متعلقاً بروحك وقلبك لا تسارع إلى علاجه؟!