للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحذير القرآن من مخالفة الصراط المستقيم والإحداث في الدين]

قال تبارك وتعالى -وهو يحث المسلمين على لزوم الصراط المستقيم-: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:٧٤]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:١٥٣] (وصاكم به) فهي وصية من الله لنا أن نتبع صراطه المستقيم، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث ابن مسعود قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً طويلاً على الأرض، وخط على جنبتيه خطوطاً قصاراً، ثم قال: هذا صراط الله -طويل- وهذه صرط الشياطين، على كل صراط شيطان يدعو إليه).

فتأمل! الفرق بين صراط الله وبين صرط الشياطين، صراط الله طويل، لكنه مستقيم، وصُرط الشياطين قصيرة، لكنها معوجة.

ومعنى: (صراط الله طويل) أي: أنك لن تلقى جزاءك فيه؛ لأنك قد تموت في أثناء الطريق وأنت تمشي، أما صرط الشياطين فعادةً يحصلون مآربهم قبل أن يموتوا، وهذا فيه مزيد إغراء لسلوك سبيل الشياطين؛ لأنه سيحصل ما يريد ويستمتع به في حياته، أما صراط الله فطويل، قد تموت ولا تحصل مأربك، طول عمرك تدافع عن الشرع والدين وتدعو المسلمين إلى لزوم الصراط لتقيم الدولة المسلمة، ومع ذلك تموت ولا ترى الدولة بعينك، إنما يراها ولد ولدك، فهذا يدل على بعد النظر، وأن السالك يريد الله عز وجل لا يريد العاجلة.

إن الطريق إذا كان مستقيماً، وكان المرء أعشى البصر -لا يرى- فثبت قدميه على الصراط فإنه سوف يصل، أما هذه الطرق الملتوية فلا يصل إلى شيء منها.

قال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:٩]، وتأمل الآيات قبلها ترى شيئاً بديعاً، وهذا الشيء موجود في القرآن في أكثر من آية، فقد ذكر الله عز وجل الأنعام، ثم امتن علينا بخلق هذه الأنعام، فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:٧ - ٩]، والرابط بين هذه الآية وآية {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:٧]، هو أن هناك ثقلاً لا تستطيع أن تحمله أنت بنفسك، وهناك خيل وبغال وحمير تركبها لتسلك سبيلك، وتقرب لك المسافات للسفر والسير، فهذا سير حسي نراه ونشعر به، ونعلم قدر الراحة التي حظينا بها لما خلق الله هذه الأنعام.

تصور إنساناً يحمل كيس رمل على كتفه مسافة خمسين كيلو، هل تتحمل هذه المشقة؟! لكن إذا حملت هذا على ظهر سيارة أو على ظهر بغل أو حمار، فلا تشعر بأي مؤنة ولا تعب، إذاً: أنت تحس بهذا إحساساً يقينياً.

وبعد هذا الشيء الحسي -الذي تشعر به ولا تنازع فيه- أبان ربنا عز وجل الخط والسير المعنوي إليه، إنما نقل المقام من الحس إلى المعنى مباشرة ليحصل لك حسن تصور للمعنى.

((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) (قصد السبيل): أنت مسافر إلى الله، فالحياة الدنيا معبر، وأنت كل يوم مسافر على جناح الليل والنهار، يحملك ليل ويحفك نهار، ويحملك نهار ويحفك ليل، وكل هذا عبارة عن سفر؛ لأنك كل يوم تقترب من المنزل النهائي وهذا سفر معنوي لا تشعر به بسبب قرارك ومقامك في بلدك.

فأراد الله عز وجل أن تحسن تصور هذا السير إليه؛ فجاءك بالبغال والحمير الذي هو السير الحسي، أنت تركب البغال والحمير لتسافر هنا وهناك، فنقلك هذه النقلة؛ ليحسن لك التصور بالنسبة للمعنى، كما قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:٢٦] هذا تصور حقيقي، فأنت تلبس الملابس لتواري السوأة والعورة، ويقيناً فيها الحر والبرد.

ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:٢٦] قال هذا مباشرة بعد هذا اللباس؛ لأنك الآن لديك تصور لقيمة هذا اللباس، يجملك، ويواري سوأتك، ويدفع عنك الحر والبرد، فيعطيك المعنى الأهم {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:٢٦]، لما أمر الناس أن يذهبوا إلى الحج قال: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:١٩٧] كل شخص يأخذ متاعه معه {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:١٩٧]، بعدما يتزود الإنسان التزود الحسي يذكر له الزاد الحقيقي الذي ينفعه عند ربه تبارك وتعالى.

وقوله: ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) هو مثل قوله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:٤١]، أي: على الله بيان السبيل الحق، ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) أي: ومن هذه السبل جائر.

وقرأ ابن مسعود ((ومنكم جائر))، لكن هذه القراءة شاذة، لا يقرأ بها، لأن القرآن يشترط فيه أن يكون موافقاً لرسم المصحف، وأن يكون متواتراً، وأن يوافق وجهاً من وجوه العربية، والعلماء يستخدمون القراءات الشاذة في بيان معاني القرآن، وإن كنا لا نقرأ بها، ولا يحل أن تسمى قرآناً.

إذاً قوله: ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) هذا يدل على طرق أهل البدع والشهوات كما فسرها مجاهد رحمه الله.

ومن الأدلة الدالة على التحذير من البدع قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:١٥٩]، وقرأ حمزة والكسائي ((إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء))، وقراءة الجمهور تذكر الحال، وقراءة حمزة والكسائي تذكر المآل، فإن الذي يفرق دينه لا بد أن يفارقه، فرَّق ففارق، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:٣١ - ٣٢] وقرأ حمزة والكسائي أيضاً هذا الحرف: ((من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً)).