[كعب بن مالك وما لاقى في أيام هجره]
قال كعب بن مالك: (أما صاحباي وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي - فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، فكنت أمشي في الأسواق، وأخالط المسلمين، فلا يكلمني أحد) فلو قال لمسلم: السلام عليكم، فهل يجوز له أن يرد السلام، ورد السلام واجب؟
الجواب
لا.
لأن كل حقوق كعب بن مالك سقطت بالهجر، فعلى المسلم الذي يهجر العاصي أو المبتدع أنه إذا سلَّم عليه أن لا يرد السلام عليه؛ لأن حقوق العاصي أو المبتدع تسقط حتى يفيء إلى الله تبارك وتعالى من العصيان أو البدعة، على الشروط التي ذكرناها قبل ذلك.
قال: (فكنت أمشي في الأسواق، ولا يكلمني أحد، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين أتيت حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فتسورته -أي: تسلقته- فرأيته، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام) فـ كعب يؤكد ذلك بالقسم؛ لأن الحادثة لم يشهدها أحد، فيقول: (فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ تأكيداً لالتزام أبي قتادة، فلما لم يرد عليه السلام قال: (يا أبا قتادة! ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت -فنشده الله تبارك وتعالى- أنشدك بالله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فرجع في الثالثة فنشده الله تبارك وتعالى فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم) حسناً، هل هذا كلام؟ أم لا؟ نعم هذا كلام، هل خالف أبو قتادة؟ الجواب: لا.
متى يكون الكلام معتبراً في الشرع وعليه الإثم؟! وأنا لا أنازع الآن أنه من جهة اللغة والاصطلاح؛ ولكن هل هو الكلام الذي منع منه المسلمون؟ لا، فالكلام الذي منعوا منه هو أن يتم تبادل ما بين أبي قتادة وما بين كعب في الحديث وأبو قتادة لما قال: (الله ورسوله أعلم) لم يقصد الرد عليه، ولا التكلم معه، وإنما علَّق محبة كعب بن مالك على علم الله ورسوله، بالرغم من أن أبا قتادة قد يكون يعلم في قرارة نفسه ومن تصرفات كعب أنه محب لله ورسوله، ولكن بعد الموقف الذي حدث لا يدري ما يحكم الله تبارك وتعالى في شأن كعب! لذلك لا يكون ذلك بمنزلة الكلام الذي نهي المسلمون عنه.
قال كعب: (ففاضت عيناي -أي: بكى، عندما سمع هذا الجواب- وتوليت حتى تسورت الجدار).
(قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ -النبطي هو الفلاح، وسمي نبطي؛ لأنه يستنبط الماء من باطن الأرض- قال: فطفق المسلمون يشيرون إليّ، فجاء بكتاب من ملك غسان -ملك غسان هو جبلة بن الأيهم - قال: ففتحته فإذا فيه، أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال كعب: فقلت: وهذا أيضاً من البلاء! فتيممت بها التنور فسجرته بها) وهذا يدل على صلابة إيمان كعب، وأنه هو لما عرض عليه أن يكفر بالله ورسوله نظير أن يتوج مرة أخرى في الدنيا أبى.
حسناً: ما رأيك أنه يوجد الآن من ينتسبون إلى الإسلام يكفرون بغير عرض؟! أي: يكفر ويترك دينه ولم يحصل شيئاً من الدنيا يساوي عند أهل الدنيا ما فقده هذا الإنسان! كمن يذهبون إلى بلاد الكفر ويقدمون الخمور ولحم الخنزير في المطاعم بدعوى أنهم محتاجون إلى المال، مع أن العمل موجود هنا، ولكنه يأنف أن يعملها في بلده، ثم يعملها خارج بلده، ولو ذهب الرجل ليعمل عملاً مباحاً خارج بلده فلن نحول بينه وبين المباح، ولكن أن يقدم دينه قرباناً من أجل أن يحصل على المال، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم المثل لذلك، نحن نقول: (من أراد البحر استقل السواقي)، فانظر إلى الصحابة وإلى جلدهم وصبرهم في ذات الله تبارك وتعالى، وتركهم لحظوظ أنفسهم.
فكانت هذه النقطة المشرفة في حياة كعب، فهو لما عرض عليه الكفر أبى وصبر في ذات الله تبارك وتعالى، وقال: (هذا أيضاً من البلاء)، ثم إنه لم يمزق الرسالة، وكان تمزيقها يكفي، لكنه أحرقها: (فتيممت بها التنور فسجرته بها).
: (حتى إذا مرت أربعون ليلة) وقبل أن أصل لهذه النقطة قال كعب: (وكنت أدخل المسجد فأصلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكنت أُسارقه النظر) أي: وهو يصلي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فينظر إليه بطرف عينه نظرة خفيفة.
يقول كعب: (فكنت إذا نظرت إليه أعرض عني، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ)، لاحظ رأفة الرسول عليه الصلاة والسلام وشفقته بـ كعب.
بعض الناس فهم خطأً من قول كعب: (أسارقه النظر) وأن كعباً التفت في الصلاة، فأقول: ليس معنى مسارقة النظر أنك تلتفت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة، وقال: (إن الله تبارك وتعالى ينصب وجهه في وجه العبد، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، وإذا أقبل على الله تبارك وتعالى أقبل الله عليه) ومعنى مسارقة النظر أي: خطف النظر، ليس معناها أنه يلتفت فهذا لا يقتضي.
قال: (حتى إذا مرت أربعون ليلة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ أن اعتزل امرأتك، قلت: أطلِّقها؟) فهل فهم كعب أن كلمة (اعتزل) تعني أنه يطلق؟ لا، ليس بالضرورة أن كلمة اعتزل تعني ذلك، فكيف فهم كعب منها الطلاق؟ لأنها كانت قديماً تعتبر طلاقاً، ولذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين، وفي أوله: (حججت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قضى حاجته أتيته بماء فتوضأ، فقلت له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]) الحديث) فيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب النزول على الرسول صلى الله عليه وسلم هو وجار له من الأنصار، فإذا نزل عمر بن الخطاب يأتي صاحبه بخبر الوحي وغيره، وإذا نزل صاحبه فعل مثل ذلك.
ففي يوم من الأيام كان الدور على الأنصاري، فجاء الأنصاري إلى بيت عمر عشاءً وطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: (أثم هو؟ -أي: أهو موجود؟ - قال عمر: فخرجت إليه فزعاً، قلت: أجاء غسان)؟ وملك غسان كان يريد أن يغزو المدينة، فالصحابة كانوا مستعدين للدفاع عن المدينة، فالطرق الشديد هذا معناه أن مصيبة كبيرة حدثت، فقال له: (أجاء غسان؟ قال: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه) والرسول عليه الصلاة والسلام لم يطلق، بل اعتزل فقط، ودخل في المشربة واعتزلهن تسعة وعشرين يوماً، فكلمة (اعتزل) كانت تعتبر طلاقاً في عرفهم، ككلمة: (الحقي بأهلك) فتبادر إلى كعب أن الاعتزال يساوي الطلاق، لذلك قال: (أفأطلقها؟) ولو قيل له: نعم لطلقها، ولما تردد لحظة في طلاقها.
قال له: (لا، ولكن لا تقربها).