إن لأهل البدع شباكاً ينصبونها لجذب الناس إليهم، مثل: البكاء عند سماع القرآن، أو عند سماع الموعظة، فنجد الواحد منهم يبكي ويرتجف، ومثل: طلب العلم والتبحر فيه، وليس عن أذهانكم ببعيد أن أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإيمان والإحسان والإسلام، وفي مطلع الحديث يقول: عن يحيى بن يعمر، قال: انطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -أو معتمرين- فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره عما أحدثه معبد الجهني في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً فاكتنفناه، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -وفي رواية أخرى- لأنني كنت أبسط منه لساناً، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم -أي: جعل يعدد من صفاتهم: قوامون صوامون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- غير أنهم يقولون -بعد كل هذا المدح والثناء- لا قدر وأن الأمر أنف.
أي: أن الله عز وجل لا يعلم بالفعل إلا إذا وقع، فنفوا علم الله المتقدم على أفعال العباد.
وفي كتاب الصلاة لـ محمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي:(إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).
فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر، وعمر، وعائشة، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-.
وتقعر في العلم.
أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال:(والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين.
فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها.
ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين.
فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون:(النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.